الاثنين، 3 مايو 2010

رحلةٌ في وادي عبقر!


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!




حدثني حسامُ بن يوسف قائلاً:
عنَّ لي ذات يومٍ السفر، في رحلةِ عملٍ بين البدو والحضر، وبعد أن اعتذر لها كل الرفاقِ كان لا مفر، فللسفر سيدٌ واحدٌ في كل من غبر!


ركبتُ دابتي وأخذتُ أطوي المسير، صعوداً بين التلال ونزولاً باليسير، وكان –يا صاحبي- يومٌ ما مثلُه يصير، رياحهُ سَمومٌ وشمسهُ سعير، والعرقُ مني صَببٌ والبصر غاب بالقصير، فتراءى لي لهبٌ، ظننته هول وصبٍ، فنزلتُ أستطلعهُ عن كثبٍ، فغاصت قدميَّ في الرمالِ، وسقطت أرضاً في الحال، وشعرتُ أن روحي تغرق في موج الجبال، فغبتُ عن الوعي، واستفقتُ على غيرِ ذلك الحال.


شعرتُ كأن رأسي دُكَّ بالحجر، فأفقتُ متألِّماً وبصعوبةٍ أمعنتُ النظر، تلال الصحراء أضحت سوداء كالمَلِّ أو أشر، مصبوغةً بحمرةٍ مصفرةٍ ويكأنها شرر! أين أنا؟! ما الخبر؟ فسمعتُ هاتفاً من خلفي: عمتَ سعيراً في وادي عبقر!


فالتفتُّ من خلفي، من بإزاء ردفي؟! فكان –يا خلي- مخلوقاً أشرق النَفَسَ بالأنفِ.
رأيتُ شيئاً خلتهُ شيطاناً؛ قرنُ جاموسٍ، وجناحُ ناموسٍ، ذيلُ حمارٍ، وحوافر من نارٍ، جسدٌ شبيهٌ بالإنسان، وأذرعٌ لطولها تضيقُ بالمكان، يمشي برجلٍ واحدةٍ ويقفزُ في أحيان!
فلهولِ ما رأيتُ صرختُ، وهربتُ من إزائي وجريتُ، فما كان لي سوى بالفرارِ ألوذُ، فأمسكني بشدةٍ، فهممتُ بالله أن أعوذُ، فأقفل فمي وقال: نشدتكَ الله ألا تقول كقول ابنة عمران، ولكن افهم ما أقولُ، وبعدها عُذ بمعَاذٍ.


قلتُ وقد طار من عقلي الصواب: هاتِ يا جناً ما عندكَ من جواب!
فتنحنح المخلوقُ القبيحُ، فلهولها هبت حولنا الريحُ، وقال بوجهٍ لا يُريحُ، لا تعرفُ منه أمدحٌ قال أم تجريح: أنا قرينك "بعبوط"، باسطُ الأكفان والحنوط!
ومدَّ يدهُ إليَّ مُصافحاً، فأوجستُ أن يكون لدمي سافحاً، فأدنيتُ بخفيةٍ في جسدي نائحاً، فاستجمعتُ قواي وبلعتُ ريقي، ومددتُ يَدِيَ قائلاً: تشرفتُ يا صديقي! أنا اسمي.. أنا.. ماذا كان؟! لعله هُنا.. أنا!!!
فمن الخوف نسيتُ اسمي! فما عدتُ أرى إلاَّ مقابر الرمسِ، فقاطع الشيطانُ قولي، وقال: أنت حسامُ الهُمام، خلاَّقُ القوافي والكلام، وأولُ من أخضع الجنَّ للسلام!!


قلتُ حينها ساخراً: ما دمتُ عندك بهذا القدرِ، فأخلِ سبيلي طائعَ الأمرِ! ثم أينَ أنا؟! وماذا تنوي من الشرِّ؟
فأجاب بصوتٍ مُرعبٍ مُظهَر: أنت في دركة الظلام الأنور، ديارُ الجنِّ من وادي عبقر!


فأقامني عن الأرض بطرفِ أظفارهِ، ونفضتُ عني الرمادِ من آثارهِ، وقلتُ بسخطٍ:
والآن، بحقِّ الله ماذا تُريد؟! فأجاب ذلك الرعديد: مددٌ منك يا مديد!
قلتُ يا مشركاً! اطلبهُ من رب العبيد!
فقال: الخطبُ ليس كذلك، ولكن اسمع ما هنالك، واقبل طلبي محفوفاً بذلك!!
قلتُ: بئساً لمن علَّمك العربية! لا تُستعملُ تلك الكلماتُ على تلك السجيَّة! أم تُريدُ درساً في البلاغة اللغوية؟!
فقفز "بعبوطٌ" قفزةً في إثرها زلزال، شقَّقَ الأرض وألهبَ الزوال، وقال صارخاً: نعم! نعم! الآن في الحال!!
قلتُ غاضباً: أنت أبهمُ منك قبل لحظة! تُرى أأنا في حُلمٍ أم في يقظة؟! أجبني أيها المُخيف، أو أستعيذُ..
فألجمني ثانيةً وقال:
حسناًَ، حسناً سيدي لك ما تُريد، أتيتُ طالباً علمك الفريد، وسائلاً إمدادي بألفِ حرفٍ أو يزيد، وإلاَّ خسرتُ هيبتي بين سادة الجن والعبيد!
فقلتُ وعجبي لا يُفارقني: فهمك بعدُ لا يساورني، أأنت جنٌّ أراد أن يشاورني، أم طالبُ علمٍ يريد أن يجاورني؟!


فقال ذلك المخيف: خسرتُ نزال الشعرِ يوماً مع جنٍّ أليف، فنبذني المردةُ وطردي بات يحيف، وأخذ الجنُّ يلمزونني بالضعيف والرهيف، وأمهلوني ألف يومٍ لاستعادة كرامتي، فهمتُ على وجهي وذللتُ هامتي، فسمعتك يوماً تشدو بسجعٍ من السُّحار آتي، فقلت هذه هي! نشدتُ عندك ضالتي!
فقلتُ: نادراً ما أقولُ الشعرَ، ولعلك سمعتَ مقامةً!
فقال: شعراً كان أو مقامة، إنها تكفي لقود الجن بالإمامة، وطمس كل دُبٍّ إلى حمامة! فاكتب لي بعضها ولك مني ما تريدُ عظاماً أو عمامة!
فقال حسام: اكفيني شر الوسوسة، والأفكار الموجسة، وشعرك بالمدح سيعتلى بكلِّ لسانٍ ومنبسة!
فقال "بعبوطُ": أما الوسوسةُ فليس لك عليَّ فيها سبيل، ولك كلُّ ما دونها من التعظيم والتبجيل، وما لم يكن لك به خاطرٌ أو لك به قبيل!
فقلتُ وهل تظنُّ نفسك عظيماً أيها القرين؟!
فزمَّجر "بعبوطُ" هائجاً: أنا اللعين ابن اللعين! أنا قاتل المردة على مرِّ السنين! قال عني شيطون ابن المشيطن الشيطوني في كتابه "المارد الأبهر في سادة عبقر": "وبعبوطُ ماردٌ لم يُخلق مثلهُ أحقر! ولا لنظير شره أظهر"!!
قال حسامٌ: فكتمتُ في نفسي ضحكةً خفية! فقريني جدُّ أجهل من رأيتُ باللغة العربية، وأضمرتُ عونهُ بقصيدةٍ عتيَّة، فعلى حدِّ علمي أنني الآن في عهد الجاهلية!
فقلتُ لـ"بعبوطٍّ": هات يا صاحب الحنوط، أرني دياركم، وأخبرني بأخباركم، لأعرف كيف تؤكلُ أكتافكم، وتُكتب أشعاركم، ومواطن مدحكم، وعتبات هجائكم!!


فأصعدني على ظهرهِ وقال تمسَّك، ولن يصيبك مكروهٌ أو نارٌ تمسَّك! وانطلق طائراً بين أودية الظلام، ما رأيتُ أفزع منها؛ تطيشُ بالأحلام، وتُعجِزُ اللسان عن أدنى الكلام، ويلفحك بين حينٍ وآخر شيءٌ من شرر، فتجد أن عقلك أصابهُ شيءٌ من ضرر! فقلتُ: ويحك "بعبوطُ" أين تأخذنا؟! أهذه منازلٌ تُنْزلنا؟! فقال: منازلنا ما زالت بعيدة، وفي طريقنا أزمانٌ سعيدة، وضروبُ فخر مشيدة. فلتعرفها قبل أن تكتب المدح أو الهجاء!


فمررنا بحرَّةٍ يلفُّها السكوتُ، وقال: رويدك! هذه حرَّة "الجُعفوتُ": ما أكثر من بها يموتُ! هنا يا صاحبي في هذا اللهيبِ نُقيم نزالاً يُشبه العَدْوَ، يسمونهُ سباق "الفكو"! قلتُ الجكفوتُ والعفوُ ما يكون؟! فنهرني: ليس عفواً بل "فكوٌ"! قلتُ وما هو؟!
فقال: سباقٌ شعبيٌّ شيطانيٌّ عالي الوصف! للركض على ثلاثةِ أصابعٍ ونصف، مسافة أصبعين ونصف!!


قلتُ وعجبي لا يزالُ: أبقي من غرائبكم شيئاً على هذا المنوال؟! أبقي أفكارٌ أخرى للنزال؟! فقال القرينُ: نعم! أتعرفُ يوم "الجفاديد"؟! يتنازلُ في هذا اليوم مردةُ الشعر بالهجاء والتهديد، وقليل فخرٍ للمجد يُعيد! ومن يخسر يُغيَّبُ في الوحلِ لألف عامٍ أو يزيد، حتى يُغيَّبَ فيهِ بعده "جُفدودٌ" جديد!
يقولُ حسامٌ: أفهم أن الجفدود مفرد الجفاديد! وأخبرني يا أفشل من رأيتُ في اللغة، كيف كنتَ تهزمهم بتلك الجهالة الموغلة؟! وحروفك المولغة؟!
فقال: على جهلي، فلا أحدَ أعلم مني بالشِّعرِ في هذا الوادي، حتى أتى "جلمود" بمقرونهِ الشادي، وصاغ القوافي في كلِّ البوادي، وهجاني مُذهباً كُلَّ أمجادي. لعلَّ اسمهُ ممدوح بن محمود!
قلتُ: إذاً لقد وصلتَ، فهلمَّ نقعد في ساحة القوم، ونقلب حَولَهم للنومِ، وأفراحهم لأبد الصوم!


فأخذني العفريتُ إلى أوديةٍ مُشتعلة، بها عفاريتُ لا تبدو منتعلة، وفيها من الغرابة ما تظنها مُفتَعلة! فذلك سوقٌ لبيع العظام، ميزانهم فيه جنٌ يمدُّ يديه للأمام، ويزن العظام بالأخرى ويحسب السعر بالكلام!
وذاك جنُّ يُحدِّثُ نفسه! فقلت أيا قريناً ألهذا أحلامٌ مؤنسةٌ؟! فقال: بل هو مشغول لقرينهِ بالوسوسة!


وعندهم سوقٌ لتبادل الأكاذيب، ذاك يقولُ أنه لم يخضع لسليمان في بناء المحاريب! وآخر لفَّ الأرض على بعض الدواليب! وكاذبٌ يدعي النبوة في قوم المغاليب!


فأتينا على ديوان الأخبار، ومجلس النثر والأشعار، المُمَوَّلُ عفريتياً من ذوي اليسار! فأخذنا مجلسنا، ووضعنا جولتنا، وقلتُ قولتنا:
إن قريني "بعبوطاً" شكك بعضهم في شرف مكانه، وغلبةِ أقرانهِ، والعلو على جميعِ أهل زمانهِ، وإني سمعتُ شادياً في الجاهلية يتغنى بمدحهِ، فليسمع كلُّ شيطانٍ من مكانه!
فقالوا: العن بالمدح.. العن!
فهمسني بعبوط لما أوقفتُ الشرح: قل القول ولا تبالي بالطرح! هذا دأبهم في حثِّ المدح!
فقلتُ:


سيّـر إليك جمـوعَ الجنِّ بالقهرِ
واسعُرْ جحيماً، شهراً ليس كالشهرِ


واجمع ببأسكَ أصفاد القِران وزِدْ
جُوداً عليها أبياتـــاً من النَّحرِ


واضمم كريمـاً إليهم كُلَّ مفخرةٍ
واعزُز إليهم أكوابــاً من الخمرِ!


حتَّى إذا سُعرت بالحـربِ حَمْيَتُهُ
والجَفنُ لا يهوي دونـاً من النقرِ!


واستنَّفرَ الشُّعارُ جيشــاً يُعوِّلهُ
يحمي مجالسهم من ساعـةِ الحشرِ


فانظر إلى طــودٍ ما مثلُهُ يبدو
صعبَ الدِكـاكِ وما بسبيلهِ يسري


يأتيـهِ (بعبوطٌ) من غير عزمتـهِ
فأحالهُ دكَّــاً في غــابرِ الدهر


هل تُنبئ القُرنـاء اليومَ عن هولٍ
يعلو بهولٍ وفخـرٍ مثلَ ذا الفخرِ؟!


العزُّ كالمجدِ مرهونٌ لقولتنـــا
والشعرُ يُخضعُ في بوابـــةِ النثرِ


لا عجز يمضي سُلْماً قُربَ مسكنهِ
إلاَّ مروراً إلى القُرنـاءِ في يُســرِ


أمَّا قريني -قــوَّى الله قولتهُ -
فهو العتيُّ وأعتى الجـنِّ في الشعـرِ


اهنئ بُعيبطُ لا تنظــر لشرفتهم
أنت العليُّ على الأعقـابِ والنسرِ



فقام جنٌ سمينٌ ينفضُ يديهِ، ويسعر لهباً من بين إبطيهِ، ويهذر بتعاويذ شعرية! يقول هذه حربٌ! هذه مهزلةٌ عصرية! متى حاز "بعبوطٌ" كلَّ هذا المجد؟! إن هو إلاَّ كذبٌ ممردٌ بسد!
فالتفتُ إليهِ، وأخذتُ أُقلِّبُ الطرف بين جنبيهِ، وقلتُ: كم يمشي الراكبُ بين جانبيك؟! وكم ماتَ مسافرٌ حتى وصل إلى حذو شاربيك؟! حتى مقرونك كان من أكبر هاجيك!
فقال "جلمودُ": كلا! ممدوحٌ صاغ فيَّ المدائح، وأورثني العزَّ من بين الطرائح!
فقلتُ: بل أنبأني بهجاء أنبأه لكل سائح! اسمع أيها السمينُ ما قالَ:


ما نلتَ مجداً يا (جُلمودُ) بالأكـلِ
تحشـو الوعـاء هنيء التبنِ والأثل!


قد نلتَ في بيتِ الشيطانِ من تعسٍ
ضخم الحواشي عصي الفهمِ والعقلِ!


دوماً على زمن الأقـرانِ مُنطـرداً
وادٍ بعبقرَ قـد أقصـاكَ من أهـلِ!


قد كُنتَ فينا دوماً حتـمُ مهزلـةٍ
ما حُزتَ مجداً. ما أخزاكَ من نسلِ!


هــلاَّ نُنبِّئُ عن شُعَّــارنا ذُلاً
يومَ (الجفاديدِ)إذ خيَّمتَ في الوحلِ؟!


واذكر سباق (الفكو) وكُنتَ تُؤمِلُهُ
في حرَّةِ (الجعفـوتِ) خسارةً تُبلي!


والحـربُ تُنبئنا عن دُغفـلٍ بطلٍ
ألوى فراراً من الطِّعـانِ والحمْـل!


وانـزل إلى مقعـد الشعر ننـزِلُهُ
يدعوك (بعبوطٌ) تعوي على الهـولِ!


ويحيي وويحك قد أفسدتَ سُمعتنا
حاشـا إليك من الأمجـادِ والنُّبـلِ


حُبِّي إليك يقولُ القــول في ألمٍ
عزِّي المكـارمَ أنت مطاعمُ القملِ!



فسقط "جلمودُ" مغشياً عليه! وسُمع الصياحُ في الوادي من حافتيهِ، تنصيبَ "بعبوطٍ" مارد الشعر ورأسه وحاجبيه!
قلتُ يا قرينَ الشرِّ ها قد نلت الأمجاد، وصرتَ سيداً لكل من ساد، فاكفف أذاك عن العباد، وأعدني لعالمي هُديتَ سبيل الرشاد!


فأجاب: ليس بعدُ أيها القرينُ! "إنك اليومَ لدينا مكينٌ أمين"! وبقاؤك معي حتمٌ إلى أبد الآبدين!
فابتسمتُ وقلتُ:
خسئت أيها العزيز الكريم! نسيتَ قبل قول الذكر الحكيم، أن تقول": أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم!


فتهاوى عالمهم واختفت الشياطين، وشهقتُ شهقةً أزالت الجبين، وأفقتُ وقد ذُرِّ على وجهي الماءُ، بيد مُسعفٍ والزمان مساء، أين أنا؟!
ما الذي جرى؟!
وجدناك مغشياً عليكَ في الصحراء!
فقمتُ أعوذُ بالله من الشر، ومن قريني خالِط الحلو بالمُرِّ، وأخذتُ أستذكرُ ما كان من الأمرِ، وما جرى من الكرِّ والفرِّ، فما ذكرتُ سوى بيتٍ من الشعرِ:


العزُّ كالمجدِ مرهونٌ لقولتنـــا
والشعرُ يُخضعُ في بوابـــةِ النثرِ




د. ضياء مطر
أثناءَ سفرٍ في الصحراء السعودية
3/3/2010م

الأحد، 17 يناير 2010

حفل تدشين روايتي: أريـدُ أن أغــازل مثلكِ!


بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


تصادفاً مع مروري باليمنِ، ولأن اليمن إحدى المحطات الرئيسةِ في الرواية، وبدعوةٍ كريمةٍ من رابطة (شباب الأقصى)، يسرني دعوتكم لحضور الحفل الأدبي؛ حفلِ تدشين أولى طبعاتِ رواية (أريدُ أن أغازل مثلكِ!).



المكان: العاصمة اليمنية "صنعاء" - جامعة العلوم والتكنولوجيا - فرع الطالبات.

الزمان: يوم الأربعاء 20/1/2010م الموافق 5/2/1431هـ.

الوقت: الساعة السابعة والنصف مساءً.



* سيشرفني ويسعدني كثيراً حضور جميع قرائي في اليمن والتعرف عليهم -ومن أحب القدوم من خارجها فلا أمانع :)

* الدعوة مفتوحة لكل الأدباء والمثقفين وقرائي الأعزاء.

* يوجد مكان مخصص للنساء.

* دعوة مفتوحة لخبراء المنتدى من الإعلاميين لتغطية الفعاليات.



تحياتي وتقديري،
د. ضياء مطر

الاثنين، 4 يناير 2010

يعزُّ من يشاءُ ويذلُّ من يشاء!

يعزُّ من يشاءُ ويذلُّ من يشاء!




ذات ظهيرةِ الأمسِ، كنتُ في مكتبِ عميد كلية الطبِّ في معاملةٍ ما، وحوارٍ آخر مع رئيس الكنترول إذ دخلتَ علينا سيدةٌ ربما بلغت الأربعين من العمرِ أو أقلَّ قليلاً.
تقدَّمت بثقةٍ، وحيَّت الجميع بلهجةٍ لبقةٍ، ولكنةٍ عراقيَّةٍ مميزةٍ. فقامت لها السكرتيرةُ محييةً:
- تحياتي ميس مدام!

وكذلك رحَّبَ بها رئيسُ الكنترول قائلاً:
- أهلاً دكتورة.

وجَّهت وجهها صوب رئيس الكنترول، ومدَّت إليهِ أوراقاً وقالت:
- هذه نتائج امتحاني مُقرَّرَيْ اللغة العربية، وهي مدققة ومصوَّبة بالكامل، وأرجو منك التكرم بتوقيعِ استلامها.

انشغل رئيس الكنترول بكتابة ورقة الاستلام بأدقِّ تفاصيلها، بينما انشغلتُ في لحظةٍ في تحليلِ ما يجري من حولي؛ فهذه السيدةُ العراقية بلباقتها العالية وتصرفاتها البالغة التهذيبِ لا تُوحي بمجرَّدِ أستاذةٍ حاصلةٍ على الدكتوراه أو أعلى في اللغة العربية؛ بقدرِ ما توحي بتصرفاتِ فتاةٍ عاشت في بيت المُلكِ، ولكأني أُخمِّنُ أنها حصلت على تربيةٍ عاليةٍ في اللباقةِ "والإتيكيت" في أحد قصور التاج البريطاني أو ما يُشابهها. ولربما ترحيب سكرتيرة العميد لها بهذه الطريقة أشعرني أنها ليست دكتورةً عاديَّةً.

انسحبتُ من تلك الوقفة اللحظية على إثرِ اتصالٍ هاتفيٍّ جعلني أغادر مكتب العميدِ خارجاً من الكُلِّية، وإذ بي أرى أحد زملائي ممن توقَّفت معاملاتهم بانتظار النتائج النهائية لامتحان اللغة العربية والذي جرى قريباً، فهتفتُ بهِ:
- مباركٌ! لقد سلَّمت للتو دكتورة اللغة العربية كشوف الدرجات واطَّلعتُ على اسمك بينها ناجحاً!

فأجابني:
- نعم! لقد رأيتُ الدكتورة للتو وأخبرتني بالنتيجة.

فقلتُ:
- أخبرني من هذه الدكتورة؟!

فقال:
- هذه الدكتورة هوازن ابنة عزت إبراهيم الدوري!

فقلتُ مندهشاً:
- ابنة عزت إبراهيم الدوري؟!

فقال:
- نعم.

فقلتُ:
- سبحان الله! ابنةُ نائبِ رئيس الجمهورية العراقية؟! ابنةُ المُلك تأتي هنا لتبحث عن لقمةِ رزقها؟!

فقال مُعقِّباً:
- وهي ابنة نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، ورئيس الحرس الجمهوري العراقي.


فأثَّرَ بي ذلك كثيراً وآلمني، فأخذتُ أُسبِّحُ الله وأقولُ:
- (إن الأرضَ لله يورثها من يشاءُ من عبادهِ والعاقبةُ للمتقين).

وتذكَّرتُ هذا المقطع المرئي:

http://www.youtube.com/watch?v=geW8C_NgUGY


د. ضياء مطر
Master Key
18/1/1431هـ
4/1/2010م

السبت، 26 ديسمبر 2009

ذكرياتُ شخصٍ يتمشَّى!!

ذكرياتُ شخصٍ يتمشَّى!!

في مكانٍ ما من وطنِ الغُربة وحيثُ كنتُ أقرأُ كتاباً في الطبِّ مُسنداً رأسي إلى النافذةِ، في أجواء خريفيةٍ جميلةٍ صحِبت معها درجة حرارةٍ قُدِّرت بخمس عشرة درجةٍ مئويةٍ، وصحبت معها رذاتٍ لطيفةٍ من الرحمة والبركة، بما تعارف الناسُ على تسميتهِ مطراً، قررتُ ترك المذاكرةِ قليلاً لأتمشَّى في ذلك الجو الهادئ ولربما وجدتُ مكاناً مناسباً أقرأُ فيه كتابي خارج المنزل.


لبستُ معطفي الأسود الطويل، وكذلك أدفأتُ قدميَّ في حذائي الأسود طويلِ العُنق، وأخذتُ مظلتي السوداء طويلة الذراعِ؛ أتوكَّأُ عليها، وأحتمي بها من اشتداد المطرِ، وليس فيها من المآرب الأخرى سوى دهشةِ رفاقي من رؤيتي دوماً أحملُ في المطر مظلةً!
أتعجبُ من دهشتهم وضحكاتهم.. فهي متكررةٌ كلما شاهدوني ومظلتي تصدُّ المطر عني، فلربما تصوروا شكلي ومظلتي يُوحيان بسائحٍ إنجليزيٍّ عاش حياتهُ في مدينة الضبابِ "لندن".. ولذلك فهو لا ينساها أبداً في أي يومٍ مُمطرٍ.. على الرغم من أنهُ أمضى جُلَّ عُمرهِ –كما هم- في الجزيرة العربية لا يرون المطر حتى في المناسبات السعيدة إلا قليلاً!
لكن الأعجبَ من ذلك هو أن أرى هؤلاء الطيبين يركضون مهرولين تحت اشتدادِ المطرِ بحثاً عن مأوىً يقيهم البلل!
أياً كان.. ذلك الشكل جزءٌ من شخصيتي..


مضيتُ في السوقِ أبحثُ عن وكالة الساعات السويسرية الشهيرة "West End Watch" لأُعالج ساعتي القديمة من وعكةٍ صحيةٍ سببت دخول الماء إلى جوفها ومع ذلك فلا زالت تعملُ !بكفاءةٍ! تلك الساعة لم تُفارق يدي لغير الاستحمام طوال أحد عشر عاماً من إهداءها لي.. فهي عزيزةٌ عليَّ كجزءٍ من جسدي، وبالكاد أصبرُ على وقت صيانتها..
رجلٌ عجوزٌ في قسم الصيانة تفحَّصها بدقةٍ، وشخَّص مرضها، ووعدني بالعلاج، وطلب مني العودة لاستلامها بعد ثمانية أيامٍ!
انزعجتُ لهذا الوقتِ الطويلِ، لكنهُ تعذَّر بكثرة الطلباتِ لديه.. فلم يبق لي خيارٌ سوى الانتظار..
- كم تُكلِّفُ صيانتها؟!

أجاب بثقةٍ بمبلغٍ يُعادلُ سبعةَ عشر دولاراً ونصف!

وجدتهُ مبلغاً كثيراً بعض الشيء لعطبها البسيط.. لكن لغلاها لدي فالمبلغُ هيِّنٌ..
نزلتُ إلى قسم المبيعاتِ لأسال عن واحدٍ من أبناءها يشبهُ أمهُ تماماً، فأجاب البائعُ:
- بثلاثمائة دولارٍ!

أكملتُ جولتي في وكالتهِ وخرجتُ مُندهشاً من أن سعرها تضاعف خلال الأحد عشر عاماً الماضية أكثر من ثلاثة أضعافٍ!

تجوَّلتُ في السوق ساعةً.. ثم ذهبتُ لتناول العشاءِ وحيداً.. وليس ذلك بغريبٍ على شخصٍ عشق الوحدة أكثر من عشقهِ لأيِّ فتاةِ وقعت عينهُ عليها!
في الموضوع ذاتهِ أتذكَّرُ في العام الجامعي الثاني حينما كنتُ مشرفاً على أحد المجلات الطلابية الخاصة بدفعتي حين وصلتني مشاركةٌ من إحدى الزميلات، وكانت عن تعريفاتٍ صاغتها بطريقةٍ خاصةٍ بدأت بتعريفها الأول:
الأعزب:
شخصٌ وقعَ في غرامٍ شديدٍ مع نفسهِ!

بصراحةٍ، لقد أخذت مني مأخذاً عظيماً وجعلتني في حيرةٍ شديدةٍ.. ولكن أغلب شعوري كان أنها "تكسر الخاطر"!!!


توجَّهتُ إلى مطعمٍ مناسبٍ، وانتصفتُ في تناول العشاء حين اتَّصل بي أحد أعز أصدقائي وقطعتُ لأجلهِ عشائي مدة خمس دقائقٍ ونصف، لحكايةٍ مؤلمةٍ سأرويها لكم لاحقاً بإذن الله..

أنهيتُ عشائي، وهَفَتْ نفسي إلى مكانٍ مكتنزٍ بالخضرة والأشجار؛ إذ لا شيء يُبهجُ قلبي ويؤنسُ روحي أكثر من تلك الخضرة البهيَّة.
أخذتُ أسيرُ مُتَّكئاً على مظلتي ككهلٍ جاوز الستين.. ولكنها مُتعةٌ جميلةٌ لمن يُجرِّبُ المشي مع شيءٍ كالعصا أو نحوهِ دون بليةٍ في جسدهِ..
سرتُ إلى تلك الحديقةِ الجميلة المليئةِ بالحياة.. أشجارٌ باسقةٌ، وحشائشُ ممتدةٌ، وأطفالٌ يمرحون ويلعبون..
في الجوار مطعمٌ شهيرٌ على مستوى العالم.. وفي الحديقةِ فرعٌ لمتجرٍ عالميٍّ أيضاً لبيع البوظة أو ما قيل عنهُ "الآيسكريم"..

طلبتُ من البائع تزويدي بكوزٍ من بوظة "الشوكولا" المفضلةِ لدي.. فانهمك الأخيرُ بإعدادها، وانهمك على حينِ غرةٍ قريني يوسوسُ إليَّ قائلاً:
- كم أنت سعيدٌ بالوحدة! لو كانت معكَ الآن خطيبةً أو حبيبةً لكنت أمضيتَ عُمركَ في دفعِ كل ما تشتهيهِ مُضاعفاً.. أما بوحدتكَ فأنت تشتري لنفسك من كل شيءٍ واحداً فقط!

همستُ إليهِ وقد أخذتني ضحكةٌ عميقةٌ:
- خذلتني فيما قلتهُ يا بعبوط! إذ لو كانت لي واحدةٌ مما قلتَ فليس شيءٌ أحبَّ إلى القلبِ من الدفع مضاعفاً!

تلفَّتُّ حولي لبرهةٍ ثم عدتُ إليهِ هامساً:
- لكنك تبدو محقاً في كوني الوحيدَ هنا بلا رفيقةٍ!

أخذتُ نصيبي من بوظة "الشوكولا"، ونأيتُ بمكانٍ لا ينتبهُ إليهِ الأغلبُ بعد أن عجزتُ عن إيجادِ مقعدٍ فارغٍ بجوار الأشجارِ..
وقفتُ في مكاني أتلذذُ بالنكهةِ اللذيذةِ للبوظةِ، وأيضاً برؤيةِ الأطفال يمتلئون حيويةً ولهواً..
بقيتُ أُراقبُ الأطفالَ في لعبهم.. وعلى بعدٍ لم أستطع معهُ التمييز مجموعةٍ أخرى من المراهقين.. فتياناً وفتياتٍ.. كثيرين في العدد.. واقفين في الهيئة.. يتحدثون مجتمعين.. يتمايلون على بعضهم.. فلا هم وقفوا ولا هم جلسوا! لكنهم كانوا يبدون أنهم على سعادةٍ يضحكون..
أكملتُ تناول نصيبي وُقوفاً، وهممتُ بالعودة بعد أن تذكَّرتُ نسياني لإحضار ذلك الكتاب الطبي.. فحرَّكتُ قدميَّ خارجاً، وبدأتُ أنتبهُ إلى جمعٍ من الأطفال ليس كأولئكَ الأطفال السابقين.. لا يلعبون مثلهم.. بل وقفوا من خلف بضائعهم يبيعون ما يُسلُّون به أولئك الأطفالَ المُترفين.
بعضهم يبيعُ "فشاراً".. وآخرُ "ذُرةً".. وذلك "مُكسراتٍ".. وبعضهمُ ألعاباً، وعند أحدهم وقفتُ أتأمَّلُ شكل ألعابهم.. كم هنالك من الفرق بين تلك الألعاب البسيطة التي كُنا نلعبُ بها في صغرنا، وبين هذه التي أراها الآن.. حتى "البالونات" الآن فيها من الألوان والتقنيات والتعرُّجاتِ والالتواءاتِ ما لم نرهُ في صِغرنا..

أدبرتُ ظهري خارجاً من الحديقةِ وأنا أتأمَّلُ مشهدين:
مشهدٌ لأطفال يتناولون أشهى وأشهر المأكولاتِ في العالمِ، ويزيدونها تحليةً بالبوظة الأشهر أيضاً، ويكملون عليها دفعاتٍ من "الفشار" و"الذرة".. ويشترون ما شاءوا من الألعابِ، ويترفهون أيضاً بألعاب الترفيه الأكبر حجماً كعرباتِ القطار.. وما شابهها..
هؤلاءِ الأطفال ملابسهم جميلةٌ ونظيفة.. يلعبون بحيويةٍ.. المراهقون منهم بنعومة الفتياتِ في اللباس والحركة والكلامِ.. والنساء متزيناتٍ بكل ما عرفنهُ إلى الحُليِّ والثياب و"الماكياج" سبيلاً!
ومشهدٌ في الحديقة ذاتهِ لوجوهٍ بائسةٍ، وثيابٍ باليةٍ، وملامح خشنةٍ.. يعكفون على تنعيمِ أطفال الطبقة المترفة!
مشهدٌ عجيبٌ فعلاً.. كم في هذا العالم من الظُلمِ والتمييز والطبقية!
ليس حراماً على من آتاهُ الله المال أن يتمتع به في الحلال.. وليس حراماً على من حرمهُ الله من كثرتهِ أن يسعى في طلبهِ بالقربِ من أولئكَ الأغنياء بالحلالِ أيضاً! لكن هل تظنون أنه لو دُفعت أموال الزكاة لسد حاجةِ أولئكِ المتعسرين فهل ستبقى تلك الوجوهُ البائسةُ على حالها؟!
هذا العالم القائمُ على منع الزكاة وتكثير المال بالربا والرشوة.. يتَّجهُ يومياً إلى ذلك الشكل المظلم من الطبقية.. غنيٌّ مترفٌ.. وفقيرٌ معدمٌ.. إلاَّ من رحم الله..

حتى لو دُفعت الزكاة فقد يستمر مع ذلك الفقراءُ في بيع أدوات الترفيهِ من الألعاب والأطعمة الخفيفةِ للأغنياءِ؛ لأنهم وجدوا المُتعة في بيعها.. ولكن دون تلك الوجوهِ المُكفهرَّة!
وتبقى السُّنة (ليتخذ بعضكم بعضاً سُخرياً)..

همزني بعبوطٌ قائلاً: أسرع إلى البيت لتكتب مقالكَ قبل أن تنساه!
عدتُ كما ذهبتُ مُتكِّئاً على مظلتي.. ما أطيب الاتكاءَ على العصا مع العافية!




د. ضياء مطر
Master Key
6/11/2008

الاثنين، 7 ديسمبر 2009

أولى رواياتي.. أريد أن أغازلَ مثلكِ!! ... الآن في الأسواق.





كانت تجربتي الأولى.. الرواية الواقعية: أريدُ أن أغازلَ مثلكِ!
تلك الرواية التي تابعتُ فصول أحداثها بسند الرواية والمشافهة والمعاينة لمعظم أبطالها.
روايةُ الحبِّ والتضحية.. والتي لن يستطيع كاتبٌ مهما أوتيَ من مَلكَة البيان وجودة الرصف أن يأتيَ بوصفها؛ لأنها تقدير من حكيمٍ عليم. ولذلك اجتهدتُ وكتبتُ ما استطعتُ من أحداثها الواقعية وتركتُ الخيال لما لم أشاهدهُ وعرفتهُ من أحداثها.
واليوم نزفُّ لكم بشرى نزولها إلى الأسواق السعودية بتوزيع دار طويق.
من هذا المكان الكريم، أشكر كل قارئٍ حفز هممنا للاستمرار في كتابتها بالرغم من ضيق الوقت والانشغال.
أشكر كل كريمةٍ راسلتنا بانتقاداتها وآراءها حتى بعد أشهر من إنهائها.
أشكرُ كلَّ من حفزنا لطباعتها..
واليوم أحتفل بكم وبها سويةً فأنتم هديتي وهي هديتي إليكم.. راجياً من الله القبول والتوفيق والسداد.
وبكل الحب والمودة: تهانينا!





د. ضياء مطر
Master Key
20/12/1430هـ
7/12/2009م

الأحد، 29 نوفمبر 2009

الإبداع في الحج

الإبداع في الحج

رحلة الحج رحلة مميزةٌ، لا تشابها رحلةٌ على الإطلاق؛ فهي رحلة العبادة ورحلة التجارة ورحلة التعرف على عباد الله الذين وفدوا إلى بيته العتيق من جميع أصقاع الأرض.
ومهما أوغلنا وتحدثنا عن هذه الرحلة العظيمة فإن حديثنا سيظل سطحياً؛ لا سيما أن الشريعة الغراء أتت ببعض فوائد هذه الرحلة على الوجه العام، أما المنافع الشخصية فكل إنسانٍ أدرى بحاله.

وفي هذه العجالة سأصحبكم مع طرفةٍ من طرائف هذه الرحلة، والتي أرتني تجربةً عمليةً لتنوّع أنماط التفكير لدى البشر مهما اختلفت عقلياتهم وتنوعت ثقافاتهم:

حينما كنّا نتحرك ونتجوّل في مكة وبين المشاعر المقدسة، كنا نشاهد آلاف الحجاج يتبعون لجاليةٍ مسلمةٍ من الصين، و أخرى من الهند وبضعة آلافٍ أخرى من بنغلاديش، وهلمّ جراً. الأهم كيف تسيرُ هذه الألوف المؤلفة خلف قائدها دون تيهٍ أو ضياع؟!
هنا ظهر الابتكار، وتنوّعت أساليب الإبداع من جاليةٍ إلى أخرى، ومن مُطوّفٍ إلى آخر؛ فلقد كانت عادة الكثيرين من مطوّفي الحملات رفع العلم الوطني لبلادهم على خشبةٍ طويلةٍ يراها أتباع جاليته من مكانٍ بعيدٍ، إلاّ أن هذه الطريقة غدت قاصرةً على بلادٍ تعدد فيها المطوفون!! فلزم حينها التجديدُ!!
رأيتُ في حج هذا العام ظاهرةً جديدةً لما يمكن تسميته بـ "راية الحملة"؛ حيثُ شاهدنا بعض المطوفين ربطوا قصبة صيد الأسماك بشعار الحملة أو بقطعة قماشٍ كُتب عليها شيءٌ يميزُ الحملة عن أخواتها، وأمّا التميّز فهو في إمكانية طيّ الراية ومدّها في مرونةٍ تامّةٍ!!

إلاّ أن هناك مجموعةً من الأفارقة الذين ارتسمت على ملامحهم علامات الفقر تماماً كحالهم البائس في قارتهم الغنية، مع حاجتهم إلى التمييز. فماذا فعلوا؟!
ربط مطوّفهم بخشبته الطويلة كيس نفاياتٍ أسود يخفق ذات اليمين وذات الشمال، وأتباعه يهرولون خلفه في منىً بحيويةٍ ونشاطٍ!!

وأما الجالية البنغالية – على ما أظن – فكان لها حظٌ من الإبداع والتجديد أيضاً؛ وبأسلوبٍ غير مألوفٍ!!! فلقد ربط أميرهم بعصا المكنسة قارورة ماءٍ فارغةٍ من سعة اللتر والنصف، وغدا مميزاً!!

أما الذي شدّني وأثار دهشتي فهو رجلٌ هندي على ما يبدو لم يجد سبيلاً إلى التميّز سوى رفع عصا العجائز وقد ربط بها ميداليةً أو علاقة مفاتيحٍ مضيئة تتبدل أنوارها بين الفينة والأخرى!!

وتنوّعت المشاهد بين من ربط إزاراً وآخر رداءاً وبعضهم قميصاً... فكانت كثوبٍ ضمّ خمسين رقعةً
مشكلة الألوان مختلفات!!!

وحينها أخذتُ أحدّثُ والدي والذي أخذته الدهشة أيضاً من هذه المناظر، واعتزامي على جمع طريفها في مقالٍ للشباب، عندها وخزني قائلاً ومشيراً بيده:
عندئذٍ لن ترى أعجب من هذا!!

رجلٌ يجري وقد ربط بخشبته ورقة شجرٍ اصطناعيٍ خضراء واحدة!

والحاجة أُمُّ الاختراع!! وكلُّ عامٍ وأنتم بخير.


د. ضياء مطر
Master Key
موسم حج عام 1426هـ

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

ربما خبيئة عمل!

ربما خبيئة عمل!

قبل بضعةِ أيامٍ كُنتُ مدعوَّاً على طعام العشاء أنا ورفيقي العزيز عند أحد أصدقائنا المُقربين، لنتناول شيئاً مما لذَّ وطاب مما تُعدهُ بكرمٍ ومودةٍ أُمُّه الحنون؛ إذ أنها أضافتنا إلى قائمة الأبناءِ لصداقتنا لابنها في محنتهِ.
جلسةٌ حملت معها غريبَ الأخبار، وتناقلتها مآسٍ مُنينا بها نحنُ الثلاثةُ في الأسبوعِ الماضي على اختلافٍ في النوعِ والمضمون.
ثم كان العشاءُ لذيذاً حمل معهُ يداً تُربِتُ بلطفٍ على أكتافنا لتقول: علَّها تُفرجُ عمَّا قريبٍ.
استأذنتُ للمغادرةِ؛ إذ أن بيتي بعيدٌ عن هذه المنطقة النائية وذلك يستلزمُ مني وقتاً طويلاً في العودة. غير أن صاحبي أهمل استئذاني وقال:
- أعرفُ أنكَ تُحبُّ القهوة التركية السوداء.. فهل لك أن تشرب معي بعضاً منها؟!

أجبتُ بترددٍ:
- أخشى أنني أحتاجُ إلى نومٍ قد يطيرُ بشرب ذلك الفنجان الصغير.. فهلا أعفيتني؟!

فردَّ عليَّ بثقةٍ:
- لا عليكَ.. أعرفُ أنك لن تتأثرَ به! ولذا فإن أمي تُعدُّهُ الآن.

صمتُّ بابتسامةٍ هادئةٍ، وأكملنا سهرتنا على فناجين القهوة اللذيذة والحلويات الشامية الفريدة!
أصبحَ الوقتُ مُقارباً لمُنتصف الليلِ، وبدا مُحتَّماً علينا المُضيُّ إلى منازلنا..





نزلتُ ورفيقي أدراج تلك البناية الجديدة، والتي اتخذت الحكومة حديثاً في أدناها مركزاً صحياً لرعاية الأمومة والطفولة في هذا المكانِ المُنعزلِ.
وما إن حاذينا باب ذلك المركز الصحي المقفلِ، والذي لم نكد نرهُ مفتوحاً لا في ليلٍ ولا في نهارٍ ولجَ إلى البناية بهرعٍ وفزعٍ رجلٌ ثلاثينيُّ الدهر حاملاً معهُ طفلةً صغيرةً لم تُجاوز من العمر الأشهر التسعة، وبإزائهِ عجوزاً قاربتِ الخمسين من العمر! وابنٌ لها شابٌّ أيضاً..
دخلوا ووقفوا وقد تملَّكهم الألمُ لحال رضيعتهم التي يحملونها بين أيديهم، وانزعاجٌ من مركزٍ صحيٍّ غادر أهلهُ إلى مضاجعهم، ولم يجدوا من يسألونهُ سؤالاً عُرفَ جوابهُ سوايَ ورفيقي قائلين:
- أبابُ المركز مقفلٌ؟!

أجبتُ بتقريرٍ:
- نعم، هو كذلك! ولكن ربما ليسُ الأمرُ نفسه بالنسبة لتلك العيادة القريبة.

أجاب الشابُّ الصغيرُ:
- بل إنها مُقفلةٌ بالفعل.

صمتُّ وأنا أنظرُ إليهم وقد سُقطَ في أيديهم، وبدت عليهم ملامحُ اليأسِ والأسفِ.
فبادرتُ القول لعلي أهوِّنُ مُصابهم:
- إن كانت لديكم سيارةٌ فعلى بعد بضعةِ كيلومتراتٍ من هنا مشفىً حكومي.

وبلهجةٍ أكثر يأساً قالتِ الأمُّ:
- ليس لدينا سيارةٌ.. أتينا سيراً على الأقدام من مكانٍ بعيدٍ.

خرجتُ عن صمتي، وقررتُ أن أحاولَ جهدي في أملكُ من أمري، فقلتُ:
- وماذا حصل لرضيعتكم؟

قالوا:
- الحرارةُ لديها مُرتفعةٌ، ولدينا إبرةٌ وصفها الطبيبُ لا بُدَّ أن تأخذها الطفلةُ الآن.
همَّ القومُ بالعودة مع ارتفاع اليأسِ لديهم أكثر من ارتفاعِ تلك الحرارةِ، ولكن سُرعانَ ما أشار رفيقي الطبيبُ إليِّ وقال لهم:
- هو طبيبٌ، وسيقومُ باللازمِ.

نظرتُ إليهِ، وأسررتُ في نفسي بشيءٍ من التوريط الأخوي لي؛ إذ أنك يا رفيقي طبيبٌ أيضاً؛ فهل تثقُ بي أكثر مما تثقُ في نفسك؟! أم أنك تُحاول توريطي؟!
كُلُّ ذلك زال مع شعورٍ بالارتياح ارتسم على وجوهِ أولئكَ الضُعفاء، وتكرارهم السؤال مُلحين:
- هل أنت بالفعل طبيبٌ؟! هل أنت فعلاً طبيب؟!

هززتُ رأسي مُجيباً، فارتفعت يدي المرأة بالدعاءِ وطلبت مني بلهفةٍ إعطاء الدواءِ.
كشفتُ اللثام عن الرضيعةِ، وجسستُ حرارتها، وفتحتُ بلينٍ فمها، وقلتُ لهم:
- ما اسم هذه الجميلة؟
- قالوا: عائشة.
- قلتُ: تعيشُ بسعادةٍ بإذن الله.

فنالهم بفألي بِشرٌ وارتياحٌ، وقلتُ مُعقِّباً:
- الطفلةُ بدأت بإنباتِ الأسنان، والحرارةُ ردةُ فعلٍ طبيعيةٍ لذلك. فهل تُعطونها خافضاً للحرارة؟!
- الأم: نعم، بدأنا بذلك اليوم.
- قلتُ: إذاً استمروا على ذلك الدواء بانتظامٍ ثلاث مراتٍ في اليوم، ولا تخشوا شيئاً بإذن الله.

ولكن الأم الملهوفةَ على حياةِ ابنتها قالت:
- الطبيبُ قال لا بُدَّ من أخذِ إبرةٍ وإلاَّ ستتدهورُ حالتها.
- قلتُ: أروني ماذا وصف لكمُ الطبيبُ؟

فأخرجتْ لي وصفةً طبيةً موقعةً من طبيبٍ ما بضرب إبرةٍ لمضادٍ حيويٍّ، لم أفهم حتى هذه اللحظة مغزاهُ، وبالطبع ليس لدي على أدراجِ بنايةٍ بنورٍ خافتٍ ما يُمكِّنني من فحصها بدقةٍ.

صمتُّ أُفكِّرُ في هذا المضاد واحتمالاتِ صرفهِ التي لا أراها ضروريةً على أية حالٍ، ولستُ أدري لماذا كنتُ أشعرُ برغبةٍ في التراجع عن علاجِ هذه الطفلة.. أهو لعدم توفُّرِ الإمكانياتِ لديِّ في هذا المُنعَزل؟!
نظرتُ إلى القومِ وقلتُ:
- لا بُدَّ من شراء هذا الدواء، وكذلك إبرةٍ معقمةٍ.
- قالوا: لقد اشتريناها سلفاً.

ومدُّوا إليَّ كيساً يحتوي ما طلبتهُ بالضبط.

نظرتُ إلى رفيقي وقلتُ:
- ينقصني التعقيمُ هُنا!
- رفيقي: هل أطلبُ لك من صديقنا أعلاهُ كحولاً أو عطراً تستعملهُ في التعقيم؟!
- قلتُ: نعم.

رفع هاتفهُ المحمول، وقال:
- أحضر من فضلك كحولاً أو عطراً أو شيئاً نُعقِّمُ به.
- صديقنا: وعلامَ تنوون الآن؟!
- رفيقي: نقومُ أدناهُ بما يجبُ أن يعملهُ مركزٌ صحيٌّ مغلق!

لحظاتٌ فقط، وعاد صديقنا بمسحاتٍ طبيةٍ معقمة، كما لو أتى بها من المشفى. فدُهشتُ لذلك أيَّما دهشةٍ، فما حاجةُ مهندسٍ كهربائيٍّ لمثل ذلك!
فتحتُ عُلبةَ الدواءِ، وتفحَّصتُ محتوياتها.. طلبتُ من رفيقي يُمسكَ لي بعض المحتويات لئلا أُنزلها إلى الأرضِ.
هممتُ كما أفعلُ دوماً أن أكسر عُنقَ الأنبوب الزُجاجي المغلق المحتويَ على المضاد، ولكنه ولأوَّلِ مرةٍ قاوم أصابعي بشدةٍ، وقرر الثبات!
هنالكَ فوجئتُ بالمرأة تمدُّ لي طرفاً من عباءتها وتقول:
- أمسك الأنبوب بعباءتي لكي لا تجرحَ يدك.
- قلتُ: شكراً لكِ؛ لكنني معتادٌ على ذلك.

سميتُ بالله ثانيةً، وأمرتُ العنق أن يخضع ليدي، فانكسر ببأسٍ شديدٍ.. فتحتُ الإبرة المعقمة، سحبتُ كميةً مقدَّرةً من السائل المائي.. فتحتُ علبة مسحوقِ المضاد الحيوي.. ضخختُ السائل.. مزجتُ الخليطَ.. سحبتهُ إلى الحُقنة، وأعدتُ ضخَّهُ ليختلطَ.. عيَّرتُ المقدار الموصوف، وقبل أن أتوجه بالإبرة إلى الجسد الصغيرِ، قرأتُ الوصفة مُجدداً، فانتبهتُ لأمر الطبيب بضرورةِ إجراء فحص الحساسية للمضاد..
شعرتُ بعدم الرغبةِ في الخوضِ مع قرويين في أمورٍ قد لا يفقهون مغزاها، وهممتُ بالانسحابِ، ولكن شعوراً قوياً كان يأمرني بالاستمرارِ.. سألتهم:
- هل حقنتم هذا الدواء سلفاً لابنتكم؟!
- أجابوا: نعم.

فارتحتُ لذلك، إذ لو كانت تتحسسُ لهذا الدواءِ فمن المحتمل أنني لم أرها الآن!
طلبتُ من الأم كشف مؤخرة طفلتها، وإمساكها لنقوم بحقن الإبرة. ففعلتْ، فرأيتُ ما ساءني رؤيتهُ، وهي لطخاتٌ من الدم المتخثِّرِ تحت الجلدِ.. فقلتُ لهم:
- أهي منذُ مدةٍ بهذا الحال؟!
- فأجابوا: هي وكلُّ إخوتها وأمها لديهم مثال هذا الشيء.. إنهُ ولا شكَّ من "وحم الحاملِ"!

التفتُ إلى صديقي بارتيابٍ وقلتُ باللاتينية:
- يبدو أن لديهم مرضاً وراثياً لسيولة الدم.

شجعني قائلاً:
- لا عليك، يحصلُ ذلك كثيراً للأطفالِ الذين ينامون دون تقليبٍ لفتراتٍ طويلةٍ.

فكَّرتُ برهةً، وقررتُ المضيَّ مُعتمداً بعد الله على أن الطفلة أخذت حُقناً سالفةً.. ولو صدقت ظنوني فلن يكونَ شكلُ الطفلة كما أراها الآن.
سمَّيتُ بالله.. عقَّمتُ الموضعَ.. ووخزتُ الحقنة بيدٍ مُدِحَت كثيراً بخفتها في الحُقنِ.. وسرى الدواء في الجسد العليل.



أنهيتُ مهمتي، وكسرتُ الإبرة، وخرجتُ إلى الشارع أبحثُ عن نفايةٍ أرمي فيها تلك الإبرة المُستعملة لئلا يعبث بها الأطفالُ مع الصباح. وفي تلك الأثناء مدَّت المرأةُ ببعض النقودِ إلى صديقي كمكافأةٍ على صنيعنا، فردَّها بأدبٍ قائلاً:
- إننا لا نأخذُ شيئاً على ذلك.

فأخذت تدعو لنا وتشكرنا بما نعجزُ عن تذكُّره.

ولَّوا بطفلتهم، وأخذنا نسيرُ على أقدامنا أنا ورفيقي في ذلك الطريق الساكنِ المُظلمِ..
قال حينها رفيقي:
- جزاك الله خيراً.. أحسنتَ صُنعاً.

صمتُّ وقلتُ:
- أتعرفُ يا صديقي ماذا خطر ببالي وأنا أضربُ تلكَ الإبرة؟!.. خطر بذهني أنهُ ليس عجباً أن نداويَ مريضاً أتى للعلاجِ، ولكنني أشعرُ أن في تلك المرأةِ صلاحاً أو تقىً ساق الله لها كرامةً طبيبين وليس واحداً في منتصفِ الليل في مكانٍ ناءٍ على غير ميعادٍ في وقتٍ أقفلت المراكزُ الصحيةُ أبوابها أمام الزوار.. فعجبي لذلك شعرتُ أنه أُرغمتُ على علاجها ولم يكن لي والله في ذلك خيارٌ بل أنني حاولتُ جهدي ألاَّ أُورِّط نفسي بعيداً عن كل الصيدلياتِ والمستشفيات!

ابتسمَ صديقي وقال:
- من يدري.. لربما ما تقول يكونُ حقاً.

استغرقَ الأمرُ وقتاً حتى عدتُ إلى منزلي في عتمةِ الليلِ، وخلدتُ إلى الفراش بنعاسٍِ لم يؤثِّر فيه كوب قهوةٍ تركيةٍ سوداء!



د. ضياء مطر
Master Key
27/10/1429هـ
26/10/2008م