الجمعة، 4 سبتمبر 2009

ربما خبيئة عمل!

ربما خبيئة عمل!

قبل بضعةِ أيامٍ كُنتُ مدعوَّاً على طعام العشاء أنا ورفيقي العزيز عند أحد أصدقائنا المُقربين، لنتناول شيئاً مما لذَّ وطاب مما تُعدهُ بكرمٍ ومودةٍ أُمُّه الحنون؛ إذ أنها أضافتنا إلى قائمة الأبناءِ لصداقتنا لابنها في محنتهِ.
جلسةٌ حملت معها غريبَ الأخبار، وتناقلتها مآسٍ مُنينا بها نحنُ الثلاثةُ في الأسبوعِ الماضي على اختلافٍ في النوعِ والمضمون.
ثم كان العشاءُ لذيذاً حمل معهُ يداً تُربِتُ بلطفٍ على أكتافنا لتقول: علَّها تُفرجُ عمَّا قريبٍ.
استأذنتُ للمغادرةِ؛ إذ أن بيتي بعيدٌ عن هذه المنطقة النائية وذلك يستلزمُ مني وقتاً طويلاً في العودة. غير أن صاحبي أهمل استئذاني وقال:
- أعرفُ أنكَ تُحبُّ القهوة التركية السوداء.. فهل لك أن تشرب معي بعضاً منها؟!

أجبتُ بترددٍ:
- أخشى أنني أحتاجُ إلى نومٍ قد يطيرُ بشرب ذلك الفنجان الصغير.. فهلا أعفيتني؟!

فردَّ عليَّ بثقةٍ:
- لا عليكَ.. أعرفُ أنك لن تتأثرَ به! ولذا فإن أمي تُعدُّهُ الآن.

صمتُّ بابتسامةٍ هادئةٍ، وأكملنا سهرتنا على فناجين القهوة اللذيذة والحلويات الشامية الفريدة!
أصبحَ الوقتُ مُقارباً لمُنتصف الليلِ، وبدا مُحتَّماً علينا المُضيُّ إلى منازلنا..





نزلتُ ورفيقي أدراج تلك البناية الجديدة، والتي اتخذت الحكومة حديثاً في أدناها مركزاً صحياً لرعاية الأمومة والطفولة في هذا المكانِ المُنعزلِ.
وما إن حاذينا باب ذلك المركز الصحي المقفلِ، والذي لم نكد نرهُ مفتوحاً لا في ليلٍ ولا في نهارٍ ولجَ إلى البناية بهرعٍ وفزعٍ رجلٌ ثلاثينيُّ الدهر حاملاً معهُ طفلةً صغيرةً لم تُجاوز من العمر الأشهر التسعة، وبإزائهِ عجوزاً قاربتِ الخمسين من العمر! وابنٌ لها شابٌّ أيضاً..
دخلوا ووقفوا وقد تملَّكهم الألمُ لحال رضيعتهم التي يحملونها بين أيديهم، وانزعاجٌ من مركزٍ صحيٍّ غادر أهلهُ إلى مضاجعهم، ولم يجدوا من يسألونهُ سؤالاً عُرفَ جوابهُ سوايَ ورفيقي قائلين:
- أبابُ المركز مقفلٌ؟!

أجبتُ بتقريرٍ:
- نعم، هو كذلك! ولكن ربما ليسُ الأمرُ نفسه بالنسبة لتلك العيادة القريبة.

أجاب الشابُّ الصغيرُ:
- بل إنها مُقفلةٌ بالفعل.

صمتُّ وأنا أنظرُ إليهم وقد سُقطَ في أيديهم، وبدت عليهم ملامحُ اليأسِ والأسفِ.
فبادرتُ القول لعلي أهوِّنُ مُصابهم:
- إن كانت لديكم سيارةٌ فعلى بعد بضعةِ كيلومتراتٍ من هنا مشفىً حكومي.

وبلهجةٍ أكثر يأساً قالتِ الأمُّ:
- ليس لدينا سيارةٌ.. أتينا سيراً على الأقدام من مكانٍ بعيدٍ.

خرجتُ عن صمتي، وقررتُ أن أحاولَ جهدي في أملكُ من أمري، فقلتُ:
- وماذا حصل لرضيعتكم؟

قالوا:
- الحرارةُ لديها مُرتفعةٌ، ولدينا إبرةٌ وصفها الطبيبُ لا بُدَّ أن تأخذها الطفلةُ الآن.
همَّ القومُ بالعودة مع ارتفاع اليأسِ لديهم أكثر من ارتفاعِ تلك الحرارةِ، ولكن سُرعانَ ما أشار رفيقي الطبيبُ إليِّ وقال لهم:
- هو طبيبٌ، وسيقومُ باللازمِ.

نظرتُ إليهِ، وأسررتُ في نفسي بشيءٍ من التوريط الأخوي لي؛ إذ أنك يا رفيقي طبيبٌ أيضاً؛ فهل تثقُ بي أكثر مما تثقُ في نفسك؟! أم أنك تُحاول توريطي؟!
كُلُّ ذلك زال مع شعورٍ بالارتياح ارتسم على وجوهِ أولئكَ الضُعفاء، وتكرارهم السؤال مُلحين:
- هل أنت بالفعل طبيبٌ؟! هل أنت فعلاً طبيب؟!

هززتُ رأسي مُجيباً، فارتفعت يدي المرأة بالدعاءِ وطلبت مني بلهفةٍ إعطاء الدواءِ.
كشفتُ اللثام عن الرضيعةِ، وجسستُ حرارتها، وفتحتُ بلينٍ فمها، وقلتُ لهم:
- ما اسم هذه الجميلة؟
- قالوا: عائشة.
- قلتُ: تعيشُ بسعادةٍ بإذن الله.

فنالهم بفألي بِشرٌ وارتياحٌ، وقلتُ مُعقِّباً:
- الطفلةُ بدأت بإنباتِ الأسنان، والحرارةُ ردةُ فعلٍ طبيعيةٍ لذلك. فهل تُعطونها خافضاً للحرارة؟!
- الأم: نعم، بدأنا بذلك اليوم.
- قلتُ: إذاً استمروا على ذلك الدواء بانتظامٍ ثلاث مراتٍ في اليوم، ولا تخشوا شيئاً بإذن الله.

ولكن الأم الملهوفةَ على حياةِ ابنتها قالت:
- الطبيبُ قال لا بُدَّ من أخذِ إبرةٍ وإلاَّ ستتدهورُ حالتها.
- قلتُ: أروني ماذا وصف لكمُ الطبيبُ؟

فأخرجتْ لي وصفةً طبيةً موقعةً من طبيبٍ ما بضرب إبرةٍ لمضادٍ حيويٍّ، لم أفهم حتى هذه اللحظة مغزاهُ، وبالطبع ليس لدي على أدراجِ بنايةٍ بنورٍ خافتٍ ما يُمكِّنني من فحصها بدقةٍ.

صمتُّ أُفكِّرُ في هذا المضاد واحتمالاتِ صرفهِ التي لا أراها ضروريةً على أية حالٍ، ولستُ أدري لماذا كنتُ أشعرُ برغبةٍ في التراجع عن علاجِ هذه الطفلة.. أهو لعدم توفُّرِ الإمكانياتِ لديِّ في هذا المُنعَزل؟!
نظرتُ إلى القومِ وقلتُ:
- لا بُدَّ من شراء هذا الدواء، وكذلك إبرةٍ معقمةٍ.
- قالوا: لقد اشتريناها سلفاً.

ومدُّوا إليَّ كيساً يحتوي ما طلبتهُ بالضبط.

نظرتُ إلى رفيقي وقلتُ:
- ينقصني التعقيمُ هُنا!
- رفيقي: هل أطلبُ لك من صديقنا أعلاهُ كحولاً أو عطراً تستعملهُ في التعقيم؟!
- قلتُ: نعم.

رفع هاتفهُ المحمول، وقال:
- أحضر من فضلك كحولاً أو عطراً أو شيئاً نُعقِّمُ به.
- صديقنا: وعلامَ تنوون الآن؟!
- رفيقي: نقومُ أدناهُ بما يجبُ أن يعملهُ مركزٌ صحيٌّ مغلق!

لحظاتٌ فقط، وعاد صديقنا بمسحاتٍ طبيةٍ معقمة، كما لو أتى بها من المشفى. فدُهشتُ لذلك أيَّما دهشةٍ، فما حاجةُ مهندسٍ كهربائيٍّ لمثل ذلك!
فتحتُ عُلبةَ الدواءِ، وتفحَّصتُ محتوياتها.. طلبتُ من رفيقي يُمسكَ لي بعض المحتويات لئلا أُنزلها إلى الأرضِ.
هممتُ كما أفعلُ دوماً أن أكسر عُنقَ الأنبوب الزُجاجي المغلق المحتويَ على المضاد، ولكنه ولأوَّلِ مرةٍ قاوم أصابعي بشدةٍ، وقرر الثبات!
هنالكَ فوجئتُ بالمرأة تمدُّ لي طرفاً من عباءتها وتقول:
- أمسك الأنبوب بعباءتي لكي لا تجرحَ يدك.
- قلتُ: شكراً لكِ؛ لكنني معتادٌ على ذلك.

سميتُ بالله ثانيةً، وأمرتُ العنق أن يخضع ليدي، فانكسر ببأسٍ شديدٍ.. فتحتُ الإبرة المعقمة، سحبتُ كميةً مقدَّرةً من السائل المائي.. فتحتُ علبة مسحوقِ المضاد الحيوي.. ضخختُ السائل.. مزجتُ الخليطَ.. سحبتهُ إلى الحُقنة، وأعدتُ ضخَّهُ ليختلطَ.. عيَّرتُ المقدار الموصوف، وقبل أن أتوجه بالإبرة إلى الجسد الصغيرِ، قرأتُ الوصفة مُجدداً، فانتبهتُ لأمر الطبيب بضرورةِ إجراء فحص الحساسية للمضاد..
شعرتُ بعدم الرغبةِ في الخوضِ مع قرويين في أمورٍ قد لا يفقهون مغزاها، وهممتُ بالانسحابِ، ولكن شعوراً قوياً كان يأمرني بالاستمرارِ.. سألتهم:
- هل حقنتم هذا الدواء سلفاً لابنتكم؟!
- أجابوا: نعم.

فارتحتُ لذلك، إذ لو كانت تتحسسُ لهذا الدواءِ فمن المحتمل أنني لم أرها الآن!
طلبتُ من الأم كشف مؤخرة طفلتها، وإمساكها لنقوم بحقن الإبرة. ففعلتْ، فرأيتُ ما ساءني رؤيتهُ، وهي لطخاتٌ من الدم المتخثِّرِ تحت الجلدِ.. فقلتُ لهم:
- أهي منذُ مدةٍ بهذا الحال؟!
- فأجابوا: هي وكلُّ إخوتها وأمها لديهم مثال هذا الشيء.. إنهُ ولا شكَّ من "وحم الحاملِ"!

التفتُ إلى صديقي بارتيابٍ وقلتُ باللاتينية:
- يبدو أن لديهم مرضاً وراثياً لسيولة الدم.

شجعني قائلاً:
- لا عليك، يحصلُ ذلك كثيراً للأطفالِ الذين ينامون دون تقليبٍ لفتراتٍ طويلةٍ.

فكَّرتُ برهةً، وقررتُ المضيَّ مُعتمداً بعد الله على أن الطفلة أخذت حُقناً سالفةً.. ولو صدقت ظنوني فلن يكونَ شكلُ الطفلة كما أراها الآن.
سمَّيتُ بالله.. عقَّمتُ الموضعَ.. ووخزتُ الحقنة بيدٍ مُدِحَت كثيراً بخفتها في الحُقنِ.. وسرى الدواء في الجسد العليل.



أنهيتُ مهمتي، وكسرتُ الإبرة، وخرجتُ إلى الشارع أبحثُ عن نفايةٍ أرمي فيها تلك الإبرة المُستعملة لئلا يعبث بها الأطفالُ مع الصباح. وفي تلك الأثناء مدَّت المرأةُ ببعض النقودِ إلى صديقي كمكافأةٍ على صنيعنا، فردَّها بأدبٍ قائلاً:
- إننا لا نأخذُ شيئاً على ذلك.

فأخذت تدعو لنا وتشكرنا بما نعجزُ عن تذكُّره.

ولَّوا بطفلتهم، وأخذنا نسيرُ على أقدامنا أنا ورفيقي في ذلك الطريق الساكنِ المُظلمِ..
قال حينها رفيقي:
- جزاك الله خيراً.. أحسنتَ صُنعاً.

صمتُّ وقلتُ:
- أتعرفُ يا صديقي ماذا خطر ببالي وأنا أضربُ تلكَ الإبرة؟!.. خطر بذهني أنهُ ليس عجباً أن نداويَ مريضاً أتى للعلاجِ، ولكنني أشعرُ أن في تلك المرأةِ صلاحاً أو تقىً ساق الله لها كرامةً طبيبين وليس واحداً في منتصفِ الليل في مكانٍ ناءٍ على غير ميعادٍ في وقتٍ أقفلت المراكزُ الصحيةُ أبوابها أمام الزوار.. فعجبي لذلك شعرتُ أنه أُرغمتُ على علاجها ولم يكن لي والله في ذلك خيارٌ بل أنني حاولتُ جهدي ألاَّ أُورِّط نفسي بعيداً عن كل الصيدلياتِ والمستشفيات!

ابتسمَ صديقي وقال:
- من يدري.. لربما ما تقول يكونُ حقاً.

استغرقَ الأمرُ وقتاً حتى عدتُ إلى منزلي في عتمةِ الليلِ، وخلدتُ إلى الفراش بنعاسٍِ لم يؤثِّر فيه كوب قهوةٍ تركيةٍ سوداء!



د. ضياء مطر
Master Key
27/10/1429هـ
26/10/2008م