حدثني والدي يوماً ونحن نتسامرُ على أكوابٍ من الشاي والمُكسَّرات:
عُيِّنتُ أوَّلَ قدومي إلى المملكة عام 1402هـ في مدينة الدمام بمدرسة الخليج العربي الابتدائية، والواقعة -كما تعلمُ- يا بُنيَّ في شارع الملك عبد العزيز القريبِ من السوق المركزي، وتلك منطقةٌ مكتظةٌ بالسيارات والمارَّة على مدار العام.
ذهبتُ صباح أحد أيام الدوام بسيارتي الرصاصية اللون من نوع (مازدا 929) من إنتاج العام 1979م، وأخذتُ أبحثُ في الجوار عن فندقٍ أو نُزُلٍ يُقلُّ سيارتي إلى حين عودتي مع انتهاء الدوام المدرسي، فهداني ربي إلى إيداع سيارتي في مكانٍ مُلاصقٍ لسور مدرستنا.. فاستودعتها.. وودعتها.. وذهبتُ لأداء واجبي في نقل المعارف والعلوم، وغرس المبادئ والقِيم والتربية في تلك النفوس الصغيرة.
انتهى اليومُ المدرسيُّ أخيراً، وأُعتقت رقابنا لنعود إلى منازلنا إذ كانت الزوجاتُ والوَجَباتُ بانتظارنا!
خرجتُ من المدرسة، ووقفتُ أمام سيارتي مندهشاً مستغرباً لوعكةٍ صحيةٍ شديدة ألمَّتْ بِها، غير أنها كانت من الأمراض النادرة ولا شكَّ؛ إذ أنني فوجئتُ بأن مؤخِّرة سيارتي قد غطست إلى قاع خانتها على هيئةٍ دائريةٍ كبيرةٍ، فكانت كنيزَكٍ سَقَط من السماء مستقرَّاً فوق الخانة الخلفية لسيارتي الجميلة. وبدا ذلك لي مُدهشاً أيما دهشةٍ؛ إذ توقَّعتُ بسهولةٍ أن تُصاب في ذلك الازدحام برضَّةٍ من الخلف، أو جرحٍ من الجانبِ، أو شيء من ذلك قريبٌ، غير أنني أغفلتُ تماماً أي شكلٍ محتملٍ لما يشبهُ النيزك!
استرجعتُ وحمدتُ الله.. وأصلحتُ سيارتي.. ونسيتُ تلك الحادثة من ذاكرتي، غير أن غرابتها لم تزل تراودُ ذهني كلما مررتُ بجوار ذلك البناء.. فلا أكثر من الدهشة والابتسامة.
اليوم هو أحد أيام الدوام المدرسي للعام 1428هـ وعملي اليوم كوكيلٍ لمدرسة ابتدائيةٍ.
كنتُ جالساً في مكتبي حينما طرق بابي واستأذن بالدخول رجلٌ في العقد الثالث من عمرهِ، ممتلئ البُنيةِ، ضخم الهامة، قوي الجسد؛ إذ عرفتُ ذلك حينما صافحني وهزَّ يَدِيَ بحرارةٍ، والبِشرُ والأدبُ يفيضان من مُحيَّاهُ.
طلبتُ منهُ الجلوس على أريكةٍ وثيرةٍ في مكتبي، وطلبتُ من الخادم إحضار فنجانين من القهوة وشيئاً من الرُّطبِ، وجلستُ مواجهاً لذلك الضيفِ مُرحِّباً ومؤهِّلاً..
قلتُ للضيفِ:
- أشكرُ لك حضورك، إذ كان مهمَّاً الجلوس معك لأجل ابنك "حَمَداً" الذي نقلتهُ حديثاً إلى مدرستنا.
ابتسم الرجلُ بلطافةٍ:
- يجبُ أن أعتذرُ منكم على تأخري في القدوم، إذ أنني أعملُ عقيداً في الحرس الوطني بالرياض، ولا أتمكَّنُ من الحضور إلى الدمام دوماً..
أخذتني الغرابةُ وقلتُ:
- إنهُ لمرهقٌ جداً أن تعمل في الرياض وتُبقي أولادكَ في الدمام. أفلا تنقلهم إلى جوارك؟!
هزَّ الرجلُ رأسهُ نافياً، وقد بدت في عينيهِ علاماتُ رجلٍ فقد السيطرة:
- كنتُ أرغبُ بذلك، لكن زوجتي وأولادي رفضوا الانتقال معي إلى الرياض، إذ أنهم يعشقون الدمام حتى النخاع، ولن أخفي أنا أيضاً عشقي لها؛ فقد وُلدتُ وترعرعتُ ودرستُ الابتدائية والمتوسطة والثانوية في الدمام.
أخذني الفضولُ لأسأل:
- أين درستَ الابتدائية يا أبا حمد؟!
دارت عينيْ أبا حمدٍ في محجريها، كأنما كانت تقرأُ صفحةً طُويت من تاريخها، وقال:
- درستُ في مدرسة الخليج العربي الابتدائية.
جاء في نفسي شيءٌ، وأضمرتُ في نفسي شيئاً لم أستطع البوحَ بهِ.
وأكمل الرجلُ حديثهُ:
- إنني أرتاحُ لرؤية الأفاضل مثلكَ أيها الأستاذُ الكريم، فلقد بذلتم لنا حياتكم، وقدمتم لنا الغالي والنفيس، وقابلناكم بالشغب والإزعاج والمشاكساتِ.. وليت الأيام تعودُ لنتوب عن سوء فِعالنا.
أجبتهُ بلسان حال معلمٍ قضى من عمره خمسة وثلاثين عاماً في مقارعة الأبالسة الصغار أن ذلك يحدثُ دوماً، وإننا نؤدي واجبنا تجاه الطلاب بكل سعادةٍ وإن لاقينا منهم كل الأذى. ولكن الرجل زاد في حديثهِ قائلاً:
- أعتذر يا أستاذي، لكننا كنا أكثر إزعاجاً ومشاغبةً عن الحد الطبيعي.
بدت في ملامح أبي حمدٍ ملامح الألم وهو يقول:
- أتصدِّقُ يا أستاذ! هنالك معلمٌ أجرمتُ بحقِّه وأتمنى لو أراهُ فأكفِّر عن خطأي وأعتذر إليهِ؛ فلقد حدث في أحد أيام المدرسة الابتدائية أن قررتُ الهرب من الدوام المدرسيِّ، فتسلَّقتُ سور المدرسة المرتفع، وأردتُ النُزول إلى الأرض، فكان الخوفُ أعمقَ في نفسي من ارتفاعِ السور، فهداني تفكيري لأقفز على سيارةٍ رصاصية اللون كانت تقبعُ بمحاذاةِ الجدارِ، فهبطتُ بجثتي العظيمة التي تراها أمامك والتي لم تختلف كثيراً عن تلك الأزمان على مؤخرة تلك السيارة، فأحدثتُ فيها فجوةً دائريةً رهيبةً! فأخذتُ كُتبي ووليتُ هارباً دون تفكيرٍ أو اعتبارٍ.. صدِّقني يا أستاذي لو وجدتُ صاحب تلك السيارة سأبذلُ لهُ كلَّ ما يُريدُ لقاء أن يسامحني!!
ابتسمتُ في نفسي ابتسامةً عميقةً كتمتها قهراً، وتصنَّعتُ غَضَباً، وأمسكتُ بيدي على يد أبي حمدٍ بشدةٍ، وقلتُ:
- أمسكتُ بكَ أخيراً يا عدوي منذُ ربع قرن!
فزِعَ الرجلُ، وقال بعفويةٍ:
- أُتركني.. ماذا فعلتُ لك؟!
قلتُ بغضبٍ مُصطنعٍ أيضاً:
- أنا صاحبُ تلك السيارة! وأنت من حطَّمها أيها السمين!
قام الرجلُ بوجلٍ لا يوصف، وخجلٍ لا يبهتُ احمرارهُ مشتملاً رأسي يُقبِّلهُ ويقولُ:
- اعفُ عني يا أستاذ.. سأعوِّضُكَ ما تُريدُ!
أسندتُ ظهري إلى الأريكة ضاحكاً لا أقوى على الهدوءِ، بينما سكن روعُ الرجلِ، وقلتُ له:
- لا بأس عليكَ.. لقد عفونا عنك من ساعتها.. ولكنني أحببتُ مداعبتكَ.
اعتذر الرجلُ وقبَّل رأسي ثانيةً وأوصاني بابنهِ خيراً.. وانصرف.
أخذتني الدهشةُ والذهول، والابتسامةُ تُداعبُ وجنتيَّ، وقولي بقول أهل الشام:
عجباً.. (الدنيـــا صغيرة)!
ضياء مطر
1/9/2008م
1/9/1429هـ