الجمعة، 24 يوليو 2009

ثأرٌ ولو بعد حين

لون النص
ثأرٌ ولو بعد حين


حدثني والدي يوماً ونحن نتسامرُ على أكوابٍ من الشاي والمُكسَّرات:
عُيِّنتُ أوَّلَ قدومي إلى المملكة عام 1402هـ في مدينة الدمام بمدرسة الخليج العربي الابتدائية، والواقعة -كما تعلمُ- يا بُنيَّ في شارع الملك عبد العزيز القريبِ من السوق المركزي، وتلك منطقةٌ مكتظةٌ بالسيارات والمارَّة على مدار العام.


ذهبتُ صباح أحد أيام الدوام بسيارتي الرصاصية اللون من نوع (مازدا 929) من إنتاج العام 1979م، وأخذتُ أبحثُ في الجوار عن فندقٍ أو نُزُلٍ يُقلُّ سيارتي إلى حين عودتي مع انتهاء الدوام المدرسي، فهداني ربي إلى إيداع سيارتي في مكانٍ مُلاصقٍ لسور مدرستنا.. فاستودعتها.. وودعتها.. وذهبتُ لأداء واجبي في نقل المعارف والعلوم، وغرس المبادئ والقِيم والتربية في تلك النفوس الصغيرة.
انتهى اليومُ المدرسيُّ أخيراً، وأُعتقت رقابنا لنعود إلى منازلنا إذ كانت الزوجاتُ والوَجَباتُ بانتظارنا!
خرجتُ من المدرسة، ووقفتُ أمام سيارتي مندهشاً مستغرباً لوعكةٍ صحيةٍ شديدة ألمَّتْ بِها، غير أنها كانت من الأمراض النادرة ولا شكَّ؛ إذ أنني فوجئتُ بأن مؤخِّرة سيارتي قد غطست إلى قاع خانتها على هيئةٍ دائريةٍ كبيرةٍ، فكانت كنيزَكٍ سَقَط من السماء مستقرَّاً فوق الخانة الخلفية لسيارتي الجميلة. وبدا ذلك لي مُدهشاً أيما دهشةٍ؛ إذ توقَّعتُ بسهولةٍ أن تُصاب في ذلك الازدحام برضَّةٍ من الخلف، أو جرحٍ من الجانبِ، أو شيء من ذلك قريبٌ، غير أنني أغفلتُ تماماً أي شكلٍ محتملٍ لما يشبهُ النيزك!
استرجعتُ وحمدتُ الله.. وأصلحتُ سيارتي.. ونسيتُ تلك الحادثة من ذاكرتي، غير أن غرابتها لم تزل تراودُ ذهني كلما مررتُ بجوار ذلك البناء.. فلا أكثر من الدهشة والابتسامة.
اليوم هو أحد أيام الدوام المدرسي للعام 1428هـ وعملي اليوم كوكيلٍ لمدرسة ابتدائيةٍ.
كنتُ جالساً في مكتبي حينما طرق بابي واستأذن بالدخول رجلٌ في العقد الثالث من عمرهِ، ممتلئ البُنيةِ، ضخم الهامة، قوي الجسد؛ إذ عرفتُ ذلك حينما صافحني وهزَّ يَدِيَ بحرارةٍ، والبِشرُ والأدبُ يفيضان من مُحيَّاهُ.
طلبتُ منهُ الجلوس على أريكةٍ وثيرةٍ في مكتبي، وطلبتُ من الخادم إحضار فنجانين من القهوة وشيئاً من الرُّطبِ، وجلستُ مواجهاً لذلك الضيفِ مُرحِّباً ومؤهِّلاً..
قلتُ للضيفِ:
- أشكرُ لك حضورك، إذ كان مهمَّاً الجلوس معك لأجل ابنك "حَمَداً" الذي نقلتهُ حديثاً إلى مدرستنا.

ابتسم الرجلُ بلطافةٍ:
- يجبُ أن أعتذرُ منكم على تأخري في القدوم، إذ أنني أعملُ عقيداً في الحرس الوطني بالرياض، ولا أتمكَّنُ من الحضور إلى الدمام دوماً..

أخذتني الغرابةُ وقلتُ:
- إنهُ لمرهقٌ جداً أن تعمل في الرياض وتُبقي أولادكَ في الدمام. أفلا تنقلهم إلى جوارك؟!

هزَّ الرجلُ رأسهُ نافياً، وقد بدت في عينيهِ علاماتُ رجلٍ فقد السيطرة:
- كنتُ أرغبُ بذلك، لكن زوجتي وأولادي رفضوا الانتقال معي إلى الرياض، إذ أنهم يعشقون الدمام حتى النخاع، ولن أخفي أنا أيضاً عشقي لها؛ فقد وُلدتُ وترعرعتُ ودرستُ الابتدائية والمتوسطة والثانوية في الدمام.

أخذني الفضولُ لأسأل:
- أين درستَ الابتدائية يا أبا حمد؟!

دارت عينيْ أبا حمدٍ في محجريها، كأنما كانت تقرأُ صفحةً طُويت من تاريخها، وقال:
- درستُ في مدرسة الخليج العربي الابتدائية.

جاء في نفسي شيءٌ، وأضمرتُ في نفسي شيئاً لم أستطع البوحَ بهِ.

وأكمل الرجلُ حديثهُ:
- إنني أرتاحُ لرؤية الأفاضل مثلكَ أيها الأستاذُ الكريم، فلقد بذلتم لنا حياتكم، وقدمتم لنا الغالي والنفيس، وقابلناكم بالشغب والإزعاج والمشاكساتِ.. وليت الأيام تعودُ لنتوب عن سوء فِعالنا.

أجبتهُ بلسان حال معلمٍ قضى من عمره خمسة وثلاثين عاماً في مقارعة الأبالسة الصغار أن ذلك يحدثُ دوماً، وإننا نؤدي واجبنا تجاه الطلاب بكل سعادةٍ وإن لاقينا منهم كل الأذى. ولكن الرجل زاد في حديثهِ قائلاً:
- أعتذر يا أستاذي، لكننا كنا أكثر إزعاجاً ومشاغبةً عن الحد الطبيعي.

بدت في ملامح أبي حمدٍ ملامح الألم وهو يقول:
- أتصدِّقُ يا أستاذ! هنالك معلمٌ أجرمتُ بحقِّه وأتمنى لو أراهُ فأكفِّر عن خطأي وأعتذر إليهِ؛ فلقد حدث في أحد أيام المدرسة الابتدائية أن قررتُ الهرب من الدوام المدرسيِّ، فتسلَّقتُ سور المدرسة المرتفع، وأردتُ النُزول إلى الأرض، فكان الخوفُ أعمقَ في نفسي من ارتفاعِ السور، فهداني تفكيري لأقفز على سيارةٍ رصاصية اللون كانت تقبعُ بمحاذاةِ الجدارِ، فهبطتُ بجثتي العظيمة التي تراها أمامك والتي لم تختلف كثيراً عن تلك الأزمان على مؤخرة تلك السيارة، فأحدثتُ فيها فجوةً دائريةً رهيبةً! فأخذتُ كُتبي ووليتُ هارباً دون تفكيرٍ أو اعتبارٍ.. صدِّقني يا أستاذي لو وجدتُ صاحب تلك السيارة سأبذلُ لهُ كلَّ ما يُريدُ لقاء أن يسامحني!!

ابتسمتُ في نفسي ابتسامةً عميقةً كتمتها قهراً، وتصنَّعتُ غَضَباً، وأمسكتُ بيدي على يد أبي حمدٍ بشدةٍ، وقلتُ:
- أمسكتُ بكَ أخيراً يا عدوي منذُ ربع قرن!

فزِعَ الرجلُ، وقال بعفويةٍ:
- أُتركني.. ماذا فعلتُ لك؟!

قلتُ بغضبٍ مُصطنعٍ أيضاً:
- أنا صاحبُ تلك السيارة! وأنت من حطَّمها أيها السمين!

قام الرجلُ بوجلٍ لا يوصف، وخجلٍ لا يبهتُ احمرارهُ مشتملاً رأسي يُقبِّلهُ ويقولُ:
- اعفُ عني يا أستاذ.. سأعوِّضُكَ ما تُريدُ!

أسندتُ ظهري إلى الأريكة ضاحكاً لا أقوى على الهدوءِ، بينما سكن روعُ الرجلِ، وقلتُ له:
- لا بأس عليكَ.. لقد عفونا عنك من ساعتها.. ولكنني أحببتُ مداعبتكَ.

اعتذر الرجلُ وقبَّل رأسي ثانيةً وأوصاني بابنهِ خيراً.. وانصرف.

أخذتني الدهشةُ والذهول، والابتسامةُ تُداعبُ وجنتيَّ، وقولي بقول أهل الشام:
عجباً.. (الدنيـــا صغيرة)!


ضياء مطر
1/9/2008م
1/9/1429هـ

الاثنين، 20 يوليو 2009

انتهى بي المطافُ لأدلِّك قطَّاً!

انتهى بي المطافُ لأدلِّك قطَّاً!





قبل أيامٍ حملتُ كتابي، وذهبتُ إلى حديقتي المفضلة، أشتري من البوظة، وأتمتعُ بأكلها، بينما أُقلِّبُ صفحاتِ الكتاب، على شيءٍ من شغبِ الأطفالِ، وحركتهم، والتي تُبهجُ النفس؛ لاسيَّما إن كُنتَ عازباً!

ولا أخفيكم سبباً آخر أنني بذهابي للحديقة فإنني أُحرِّكُ ظهري الذي قتلني ألماً، إذ مما جرى بهِ قدر الله على أي عاشقٍ معتكفٍ للكتب أو للحاسوبِ أن يعاني آلاماً مزمنةً في الظهرِ، تستوجبُ العلاج الطبيعي، وهذا ما أفتقدهُ في ديار الغربة؛ إذ أن أكثر المراكز المختصة بالتدليك إن لم تكن كُلُّها تقومُ عليها مشبوهاتٌ غانياتٌ من دول شرق آسيا، يجلسن على مداخلِ تلك المراكزِ بوضعياتٍ مريبةٍ، وكأنهنَّ يُعلنَّ عن كلِّ شيءٍ عدا التدليكِ، ناهيك عن أن تلك المراكز تُباعُ فيها الخمورُ، ولا شكَّ بأنَّ هذه البيئة لا تناسبني.
ولذلك فقد صبرتُ على الألم أكثر من أسبوعين ولم أجد من يدلكني ويريحُ ألمي، وحتى مسكِّناتُ الألم لا تجدي معي نفعاً، والأغربُ لطبيبٍ مثلي أن أدوية التنويم أيضاً لا أستجيبُ لها، بل أشعر أنها تساعدني على الاستيقاظ! والسببُ لديَّ مجهولٌ، فلم أدخن قطُّ ولم أتعاطى المخدِّراتُ يوماً من حياتي والقهوةُ أتعاطاها –على عشقها- بحذرٍ! لكن يغلبُ ظني وكما لا يصدق الكثيرون أنني في العادة أنامُ وعقلي يُفكِّرُ، وعليه فجسدي يرفضُ النوم أصلاً إلاَّ ما أُكرهَ عليهِ!

كنتُ أقولُ في موضوع الحديقة، أنني وأثناء جلوسي في زاويةٍ منها على أحد المقاعدِ رأيتُ قطاً على بُعد أمتارٍ مني يعبثُ ويلعبُ كعادة أي قطٍّ، وبحكم خبرتي في مصادقة القطط –إذ صدف أنني أسكنتُ قطاً في غرفتي بالسكن الجامعي لشهور طويلة-فقد أشرتُ للقطِّ بحركاتٍ تدعوهُ لأني يأتي نحوي، وبالفعل استجابَ وأتى.
أخذتُ أداعبهُ، وأمسحُ رأسهُ -وذلك مما يُسعدُ القططَ كثيراً-، ثم ما لبث أن انطلق على إثرِ كيسٍ حرَّكهُ الهواءُ، ثُمَّ عادَ إليَّ ثانيةً، وهذه المرة ليس على الأرضِ، بل صعد على الطاولةِ، ووضع جسدهُ على كتابي، وأدنى رأسهُ من يدي، ففهمتُ أنهُ يريدُ أن أداعبَ رأسهُ ثانيةً، ففعلتُ ذلكَ، بل أخذتُ أفركُ رأسهُ وفروهُ، فيبدو أن ذلك أعجبهُ! فكنتُ كلما رفعتُ يدي عنهُ أدنى رأسهُ أو جذعهُ من يدي، مُستحثَّني على التدليكِ!
بقيتُ ما يقربُ من الربعِ ساعةٍ تقريباً وأنا أُدلِّكُ السيد قط، وأقول لهُ:
- خذ راحتك يا أبا الشباب، أبحثُ عمَّن يُدلِّكني، فأنتهي بتدليككَ!



ثم يبدو أن القِطَّ استراحَ، فقام عن الطاولةِ وولى، وربما لأنني انشغلتُ عنهُ بمكالمةٍ هاتفيةٍ.
تركتُ الكتابَ، وأخذتُ أتأمَّلُ الموقفَ مفكِّراً:
قلتُ: إنَّ الله يُثيبُ في إطعامِ الحيوانِ (وفي كُلِّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ). فهل في تدليكُ هذا القطِّ ومداعبتهِ يا تُرى أجرٌ؟!
قد يكونُ التدليك من باب الكماليات بالنسبة للحيوان، وليس إنساناً ليكون فيهِ دليل (.. وإدخال السرور على قلبِ أخيكَ المسلم..).

فضحكتُ وعدتُ إلى منزلي عجباً من حال التفكُّر، وعزمتُ على بحثِ المسألة!

نسيتُ الأمر في زحمة الحياةِ والأيام..

تذكرتُ الموقفَ بالأمسِ، وتلمَّستُ ظهري، أين الألم؟! لم أعد أشعرُ بهِ، بل إنني نسيتُ أمرهُ، ويبدو أنهُ غادرني منذُ أيامٍ ولم أشعر بذهابهِ!

حمدتُ الله، وعرفتُ أن كرم الله وفضله أوسع من مقاييس البشر وتصوراتهم، وعزمتُ على هذه الخاطرة!


لون النصضياء مطر
Master Key
15/5/1430
9/5/2009

لون النص



الثلاثاء، 14 يوليو 2009

بين السماءِ والأرض

بَين السَّماءِ والأرض!

حدث قبل أربعة أشهرٍ أن كنتُ أحزمُ أمتعتي لزيارةِ الأهلِ والترويحِ عن النفسِ، فكنتُ أضعُ في حقيبتي ما خفَّ حملهُ ولزمَ لهذه الرحلة القصيرة.صباح يومِ السفرِ، فتحتُ دُرجَ الأدوية في غرفتي، وأخرجتُ الأدويةَ الخاصة بطوارئ الطائرةِ من الدوار والتَّقيؤِ والمنوماتِ وما شابه ذلك. وعلى الرغم من أني بحمد الله لا أحتاجُ إليها ولا أعاني من أي تلك الأعراض لا في برًٍّ ولا بحرٍ ولا جوٍّ، غير أنني أتناولُ منها للاحتياطِ قبل صعود الطائرةِ بساعةٍ تقريباً.









أخذتُ الحبوبَ التي أحتاجها، وأعدتُ العُلب إلى درجِ الأدويةِ؛ غير أن خاطراً همَّ في نفسي قائلاً: لمَ لا تأخذُ كلَّ علب الأدويةِ معك بدلاً من أخذك لاحتياجكَ فقط؟!فكنتُ أجيب على نفسي قائلاً: ما احتاجهُ حبةٌ أو حبتين. فلماذا أُثقلُ نفسي بثلاث علبٍ من الأدوية أو أكثر؟!فكانت تُجيبني نفسي: وهل ستُثقلكَ تلكَ العُلب؟! وماذا ستخسر بحملها؟!
طاوعتها، ووضعتُ العلب في حقيبتي اليدوية، وغادرتُ المنزلَ إلى المطار.



وصلتُ مُبكِّراً، أنهيتُ كُلَّ الإجراءاتِ، وسلَّمتُ أمتعتي، وانتظرتُ وقت صلاةِ الظُّهر فجمعتها بالعصر لأن الرحلة لن تصل قبل المغربِ إلى محطتها الأولى، وجلستُ في صالةِ الانتظارِ أقرأُ كتاباً.



لفتَ نظري وأنا جالسٌ هنالكَ امرأةٌ عجوزٌ ربما لم أرَ في حياتي من هو أكبر منها سناً! لا أدري تُقيَّمُ بتسعينَ سنةً أو تزيدُ. هكذا بدت لي. لكن ما أدهشني في الأمرِ أنها كانت تنظرُ إلى الجالسين في الصالةِ بعشوائيةٍ، وتشيرُ بسبَّابتها إلى الأعلى!لا أدري ما الذي كانت تعنيهِ بالضبط حتى وصلت بدورها إليَّ ناظرةً وأشارت بسبَّابتها إلى الأعلى!أشرتُ بيدي أنني لم أفهم مغزاها، فأعادت الإشارة!قمتُ من مكاني إليها وهتفتُ فيها:- السلام عليكم، هل تحتاجين شيئاً يا أُمَّاهُ؟!
ردَّت السلامَ، وقالت:- لا يا بُنيَّ، غير أنني أُذكِّركَ بصلاتي الظهر والعصرِ، فستفوتكَ في الرحلةِ إن لم تُصلِّيها الآن، وهنا يوجدُ مُصلَّىً...
وأشارت بيدها إلى غُرفةٍ زُجاجيةٍ.
أكبرتُها في نفسي كثيراً، وقلتُ لها:- صليتُ ولله الحمدُ، وجزاكِ الله خيراً للتذكير.



أقلعت الطائرةُ في الجوِّ، وارتفعت إلى ارتفاعِ اثنينِ وثلاثين ألف قدمٍ باتجاهِ "دُبي" كمحطةٍ مؤقتةٍ، وانتصفت في طيرانها صحراء الربع الخالي الفسيحة، فكنتُ أنظرُ من النافذةِ إلى تلكِ الكُثبانِ، وقد تشكَّلت كأمواجِ البحرِ، ولكنها قفرٌ مُرعبةٌ كلوحةٍ فارغةٍ لا تحوي سوى الكُثبان!

أثناءَ ذلك، داهمني النُّعاسُ لقلة ما نِمتهُ في الأيامِ الماضية وأخصُّ الليلةَ، فقررت أن أُغطِّي وجهي بشماغي وأرتخيّ لعلي أنامُ، إن استطعت!

ربما نمتُ عشر دقائق أو رُبعَ ساعةٍ، وبدأتُ أشعرُ باضطرابٍ وأصواتٍ تصدرُ من المقاعد التي تقدمني مُباشرةً.




نفسي تقولُ لي:


- ما الذي يجري؟! هل حدث مكروهٌ يا تُرى؟!

فأجيبها:
- لا أدري، والنُّعاسُ يغلبني فلستُ بمستعدٍ حتى لكشفِ وجهي لرؤيةَ ما يجري.


فتقولُ لي بأسىً:
- لا تتصنع البرودَ وعدم المُبالاة! أنت تُريدُ أن تعرف ما الذي يجري!

فكنت أُدافعها:
- يا نفسي دعيني، فما الذي يعنيني في ذلك أو يُهمني. كما ما الذي أنفعهم بهِ؟!



فتقولُ بعبرةٍ:
- لعلَّهُ مريضٌ يريدُ مساعدتكَ!


فأضربها وأزيدُ في تغطيةِ وجهي:
- وماذا أستطيعُ فعلهُ هنا؟! حتى السمَّاعةُ لستُ أحملها، وعلى فرضِ أنني قادرٌ على علاجٍ فالأدويةُ والتي تستلزمُ الإبر ليست لدي!



قَبَّلت نفسي قلبي وقالت:
- ناشدتكَ الله إلاَّ قُمتَ وعرفتَ ما يجري!!


فأعدتُ الشِّماغَ إلى خلفِ رأسي، ومددتُ رقبتي ، ونظرتُ، فرأيتُ المضيفاتِ يقفون محاذين للمقعد الذي أمامي وشخصٌ من الجهة الأخرى كذلك، وكلهم اضطرابٌ، وأسئلةٌ تتطايرُ:
- ما بكِ؟!
- هل أصابكِ مكروهٌ؟!
- هل تستطيعينَ التنفُّس؟!
- هل أنتِ مريضةٌ بشيءٍ؟!


أخرجتُ النظارةَ من جيبي، ونظرتُ إليهم قائلاً:
- ما الذي يجري؟! هل حدثَ مكروهٌ؟!


فأجابتني مُضيفةٌ لهجتها خليجيةٌ مشوبةٌ بقلقٍ:
- نعم! هذه العجوزُ مرِضت فجأةً!


فأجبتها، وأنا أقفُ نازعاً الشِّماغ عن رأسي:
- ما الذي جرى بالضبط؟! فأنا طبيبٌ.


شَعَرتْ بالارتياحِ، وقالت:
- يقولُ هذا الشابُّ الذي بجوارها أنها أخذت ترتجفُ فجأةً وتمسكُ على صدرها.

كنت حينئذٍ واقفاً فوقَ رأسِ المريضةِ، فكانت تلك العجوزُ التي كانت تُذكِّرنا بالصلاةِ في المطارِ.فسألتها
- ما الذي تشعرين بهِ يا أمي؟!


فقالت وهي تُمسكُ بصدرها ورقبتها:
- جسدي يهتزُّ، أشعرُ بألمٍ!


سألتُ الشابَّ الذي بجوارها بينما كانت يداي تفحصُ نبض المريضةِ ونفسها:
- هل أنتَ ابنها؟!


فأجاب:
- لا، ولكنها من قريتي وأعرفها.





فسألتهُ:
- هل تذكرُ ما حدثَ لها؟!


فقال نفسَ ما قالت. فسألتهُ إن كانت تُعاني من أمراضَ مُزمنةٍ، فأجابَ بالجهلِ.

أخذتُ أفحصُ كلَّ ما قدرتُ عليهِ بلا أجهزةٍ، غير أن كل شيءٍ كان سليماً، وعلى الرغم من قلة ما بيدي فعلهُ بالفحص؛ غير أننا ولظروف الديارِ التي درستُ فيها قد درَّبونا على الوصول إلى التشخيص قدر الإمكانِ بلا أجهزةٍ! ولكم كان ذلك صعباً ومتعنِّتاً!مبدئياً، المرأةُ سليمةُ القلب والنفسِ والسوائل والأملاحِ، ولا خطر يُهددُ حياتها، وعلى ما يبدو أنها أُصيبت بدوارِ الطائرة، ولم تستطع التعبير عن ذلكَ بالشكلِ الصحيحِ، غير أن خوفهم كان مبرراً؛ فامرأةٌ بهذا العُمر محتملٌ أنها تعرَّضت لنوبةٍ قلبيةٍ أو ما شابههُ.

التفتُّ إلى الشابِّ ومن حولي من طاقمِ الطائرةِ، وقلتُ لهم:
- المرأةُ تعاني فقط من دوار الطائرة، ولا شيء يُهددُ حياتها إن شاء الله.


وقلتُ للعجوزِ:
- إن كانت لكِ الرغبة في التقيُّؤ فلم لا نأخذكِ للحمامِ، فذلك سيساعدك على امتصاص الدواء الذي سنعطيهِ لكِ.



فردَّت بالإيجابِ، وأخذتها المضيفةُ إلى الحمامِ، بينما أتتني نفسي تقولُ:
- هل أنتَ مُتأكِّدٌ من التشخيصِ؟!


فقلتُ بثقةٍ لها:
- نعم، هذا ما وجدتهُ.


فقالت مُترددةً:
- إنها عجوزٌ كبيرةٌ في السنِّ، وأخشى أن تكونَ هذه نوبةٌ قلبيةٌ.


قلتُ لها مُغضباً:
- لا! الفحصُ سليمٌ، ثم لو كان القلب –لا سمح الله- فما بيدي شيءٌ أفعلهُ إلاَّ قليلاًَ!


قالت:
- تأكَّد! فلن يكونَ منظرك جميلاً والجميعُ يُشيرونَ إليكَ أنك أخطأت التشخيصَ، وقصَّرتَ في إنقاذِ حياتها!


قلتُ لها بغضبٍ:
- أُغربي عن ذاتي! أنا واثقٌ من التشخيص، وهذه حدودُ الإمكانيات المتاحة في الطائرة.


فولَّت بصمتٍ مع عودةِ العجوزِ، فأمرتُ المُضيفةَ بإحضارِ ماءٍ، وقمتُ إلى حقيبتي لإحضار الأدوية التي تُناسبُ حالتها تماماً، والتي لم أكن أرغبُ بحملها!!

أعطيتُها الدواء، ووضعتها في وضعيةٍ مناسبةٍ، وأمرتُ قريب قريتها بمراقبتها، ومناداتي إن حصلَ شيءٌ. وعدتُ إلى مقعدي ببرودٍ أقرأُ في كتابٍ وكأنَّ شيئاً لم يحصل للتو!


دقيقةٌ وأتى مُضيفٌ وسألني:
- هل العجوزُ بخيرٍ؟! هل حالتها خطيرة؟!


قلتُ:
- لا، مجرَّد دوارُ الطائرةِ، وأعطيتها العلاج.


ولِّى عني إلى قُمرةِ القيادة، وعدتُ أقرأ مجدداً.

بعد خمسِ دقائق أتت المضيفةُ الخليجيةُ، وسألت السؤالَ ذاته، فأجبتها كإجابتي، فشكرتني وذهبت إلى قُمرة القيادة!
بعد دقيقتين أتت مُضيفةٌ شرقُ آسيويةٍ، وسألت بالإنجليزية السؤال ذاتهُ، فأجبتها بالجوابِ ذاتهِ، فأمسكت على فمها، وقد احتبست الدموعُ في عينيها، وهي تقولُ:
- "Thanks To GOD".. "Thanks To GOD"
"شكراً لله".. "شكراً لله"!


فقلتُ لها بالإنجليزية ما مفهومهُ:
- ما الذي يجري؟! أنتِ ثالثُ مضيفٍ يسألني ذلك؟! هل في الأمر خطأٌ ما؟!


فأجابتِ بسعادةٍ:
- كدنا نُجري هبوطاً اضطرارياً، فلقد ظننا أن المرأة تحتضرُ! ولابدَّ من الهبوطِ لإسعافها!


فقلتُ:
- اطمئني، إنها بخير ولا داعي لذلك!


أكملت بعبرتها المخنوقة:
- "Thanks To GOD" .. "Thanks To GOD"

وحقيقةً لم يخلو ذلك الموقفُ من دهشتي، وتذكري قول الله تعالى:(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) العنكبوت 65.

نظرتَ إليَّ بامتنانٍ، وقالت وهي تكفكفُ حالتها السابقةَ قائلةً:
- "Thanks To GOD" No.. No! Thanks to you are here!"شكراً لله".. لا.. لا.. شكراً لأنك هنا"!


وهنا صحتُ فيها:
- "No! Only thanks to GOD""لا. الشكر لله وحده".


لكنها كانت قد انحنت شاكرةً وتحرَّكت، ولا أدري أعقلت ما قلتُ أم لا!
عدتُ إلى النافذةِ، ونظرتُ إلى الكُثبان الرملية المخيفةِ أسفلنا، وقلتُ:
- هل كُنَّا سنهبطُ هنا؟!

أسندتُ ظهري لمقعد رحلةٍ علمتني الكثير.


ضياء مطر
Master Key
17/5/2009

رواياتي كلها في روابط مباشرة للتحميل

مساؤكم بالخير والأدب:

كثيراً ما طالبني قُرائي الكرام إنزال رواياتي في ملفاتٍ مستقلةٍ يسهل لهم قراءتها فيها، دون العودة إلى صفحات المنتدياتِ، واستجابةً لمطالبهم الكريمة أُنزلها لكم على هيئة (PDF)، وذلك خلال الروابط التالية:



أريدُ أن أغازلَ مثلكِ
تم إصدار الرواية مطبوعةً في الأسواق السعودية باختلافات مميزة عن الموجود في الرابط الإلكتروني لذلك تمت إزالتهُ.

البحث عن المدينة الفاضلة 1
http://www.fileflyer.com/view/Md3aqBB

البحث عن المدينة الفاضلة 2 - أسرار المخيم
http://www.fileflyer.com/view/lbWsHAj

البحث عن المدينة الفاضلة 3 - المنظمة
http://www.fileflyer.com/view/Zp5THAj


أتمنى أن توافوني بأرآئكم واقتراحاتكم حولها، وسأكون لكم من الشاكرين.

حياكم الله.. ودمتم قرَّاءً.

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهُ


يطيب لي بكل المحبة والمودة أن أرحب بكم قرائي الأعزاء على ضفافِ المدادِ، وساحلِ النصلِ، ناحراً ضيافتكم من بهائمِ الحرفِ بسيفِ القلمِ، واعداً إياكم بأفضل ما اطيقُ كتابتهُ أو طهيهُ من رواياتٍ وقصصٍ أدبية لطيفةٍ لا تخلو من متعةٍ وحرفٍ أدبيٍّ هادفٍ بإذن الله تعالى، جامعاً في هذه الصفحة ما سبق أن بعثرتهُ في المواقعِ والمنتدياتِ.


فلكل زائرٍ لقلعتي أعطيهِ مفتاحاً يلجُ بهِ الأبوابَ، ومع مغادرتهِ مستمتعاً ننتظرُ منهُ أن يكتبَ لنا كل رأيٍ وتعقيبٍ قد يكونُ لذيذاً لضيافةٍ قادمةٍ بإذن الله. ننحرها موافقةً للسنةِ، وبمديِّ اسمهُ: (سيفُ القلم).





د. ضياء مطر