السبت، 26 ديسمبر 2009

ذكرياتُ شخصٍ يتمشَّى!!

ذكرياتُ شخصٍ يتمشَّى!!

في مكانٍ ما من وطنِ الغُربة وحيثُ كنتُ أقرأُ كتاباً في الطبِّ مُسنداً رأسي إلى النافذةِ، في أجواء خريفيةٍ جميلةٍ صحِبت معها درجة حرارةٍ قُدِّرت بخمس عشرة درجةٍ مئويةٍ، وصحبت معها رذاتٍ لطيفةٍ من الرحمة والبركة، بما تعارف الناسُ على تسميتهِ مطراً، قررتُ ترك المذاكرةِ قليلاً لأتمشَّى في ذلك الجو الهادئ ولربما وجدتُ مكاناً مناسباً أقرأُ فيه كتابي خارج المنزل.


لبستُ معطفي الأسود الطويل، وكذلك أدفأتُ قدميَّ في حذائي الأسود طويلِ العُنق، وأخذتُ مظلتي السوداء طويلة الذراعِ؛ أتوكَّأُ عليها، وأحتمي بها من اشتداد المطرِ، وليس فيها من المآرب الأخرى سوى دهشةِ رفاقي من رؤيتي دوماً أحملُ في المطر مظلةً!
أتعجبُ من دهشتهم وضحكاتهم.. فهي متكررةٌ كلما شاهدوني ومظلتي تصدُّ المطر عني، فلربما تصوروا شكلي ومظلتي يُوحيان بسائحٍ إنجليزيٍّ عاش حياتهُ في مدينة الضبابِ "لندن".. ولذلك فهو لا ينساها أبداً في أي يومٍ مُمطرٍ.. على الرغم من أنهُ أمضى جُلَّ عُمرهِ –كما هم- في الجزيرة العربية لا يرون المطر حتى في المناسبات السعيدة إلا قليلاً!
لكن الأعجبَ من ذلك هو أن أرى هؤلاء الطيبين يركضون مهرولين تحت اشتدادِ المطرِ بحثاً عن مأوىً يقيهم البلل!
أياً كان.. ذلك الشكل جزءٌ من شخصيتي..


مضيتُ في السوقِ أبحثُ عن وكالة الساعات السويسرية الشهيرة "West End Watch" لأُعالج ساعتي القديمة من وعكةٍ صحيةٍ سببت دخول الماء إلى جوفها ومع ذلك فلا زالت تعملُ !بكفاءةٍ! تلك الساعة لم تُفارق يدي لغير الاستحمام طوال أحد عشر عاماً من إهداءها لي.. فهي عزيزةٌ عليَّ كجزءٍ من جسدي، وبالكاد أصبرُ على وقت صيانتها..
رجلٌ عجوزٌ في قسم الصيانة تفحَّصها بدقةٍ، وشخَّص مرضها، ووعدني بالعلاج، وطلب مني العودة لاستلامها بعد ثمانية أيامٍ!
انزعجتُ لهذا الوقتِ الطويلِ، لكنهُ تعذَّر بكثرة الطلباتِ لديه.. فلم يبق لي خيارٌ سوى الانتظار..
- كم تُكلِّفُ صيانتها؟!

أجاب بثقةٍ بمبلغٍ يُعادلُ سبعةَ عشر دولاراً ونصف!

وجدتهُ مبلغاً كثيراً بعض الشيء لعطبها البسيط.. لكن لغلاها لدي فالمبلغُ هيِّنٌ..
نزلتُ إلى قسم المبيعاتِ لأسال عن واحدٍ من أبناءها يشبهُ أمهُ تماماً، فأجاب البائعُ:
- بثلاثمائة دولارٍ!

أكملتُ جولتي في وكالتهِ وخرجتُ مُندهشاً من أن سعرها تضاعف خلال الأحد عشر عاماً الماضية أكثر من ثلاثة أضعافٍ!

تجوَّلتُ في السوق ساعةً.. ثم ذهبتُ لتناول العشاءِ وحيداً.. وليس ذلك بغريبٍ على شخصٍ عشق الوحدة أكثر من عشقهِ لأيِّ فتاةِ وقعت عينهُ عليها!
في الموضوع ذاتهِ أتذكَّرُ في العام الجامعي الثاني حينما كنتُ مشرفاً على أحد المجلات الطلابية الخاصة بدفعتي حين وصلتني مشاركةٌ من إحدى الزميلات، وكانت عن تعريفاتٍ صاغتها بطريقةٍ خاصةٍ بدأت بتعريفها الأول:
الأعزب:
شخصٌ وقعَ في غرامٍ شديدٍ مع نفسهِ!

بصراحةٍ، لقد أخذت مني مأخذاً عظيماً وجعلتني في حيرةٍ شديدةٍ.. ولكن أغلب شعوري كان أنها "تكسر الخاطر"!!!


توجَّهتُ إلى مطعمٍ مناسبٍ، وانتصفتُ في تناول العشاء حين اتَّصل بي أحد أعز أصدقائي وقطعتُ لأجلهِ عشائي مدة خمس دقائقٍ ونصف، لحكايةٍ مؤلمةٍ سأرويها لكم لاحقاً بإذن الله..

أنهيتُ عشائي، وهَفَتْ نفسي إلى مكانٍ مكتنزٍ بالخضرة والأشجار؛ إذ لا شيء يُبهجُ قلبي ويؤنسُ روحي أكثر من تلك الخضرة البهيَّة.
أخذتُ أسيرُ مُتَّكئاً على مظلتي ككهلٍ جاوز الستين.. ولكنها مُتعةٌ جميلةٌ لمن يُجرِّبُ المشي مع شيءٍ كالعصا أو نحوهِ دون بليةٍ في جسدهِ..
سرتُ إلى تلك الحديقةِ الجميلة المليئةِ بالحياة.. أشجارٌ باسقةٌ، وحشائشُ ممتدةٌ، وأطفالٌ يمرحون ويلعبون..
في الجوار مطعمٌ شهيرٌ على مستوى العالم.. وفي الحديقةِ فرعٌ لمتجرٍ عالميٍّ أيضاً لبيع البوظة أو ما قيل عنهُ "الآيسكريم"..

طلبتُ من البائع تزويدي بكوزٍ من بوظة "الشوكولا" المفضلةِ لدي.. فانهمك الأخيرُ بإعدادها، وانهمك على حينِ غرةٍ قريني يوسوسُ إليَّ قائلاً:
- كم أنت سعيدٌ بالوحدة! لو كانت معكَ الآن خطيبةً أو حبيبةً لكنت أمضيتَ عُمركَ في دفعِ كل ما تشتهيهِ مُضاعفاً.. أما بوحدتكَ فأنت تشتري لنفسك من كل شيءٍ واحداً فقط!

همستُ إليهِ وقد أخذتني ضحكةٌ عميقةٌ:
- خذلتني فيما قلتهُ يا بعبوط! إذ لو كانت لي واحدةٌ مما قلتَ فليس شيءٌ أحبَّ إلى القلبِ من الدفع مضاعفاً!

تلفَّتُّ حولي لبرهةٍ ثم عدتُ إليهِ هامساً:
- لكنك تبدو محقاً في كوني الوحيدَ هنا بلا رفيقةٍ!

أخذتُ نصيبي من بوظة "الشوكولا"، ونأيتُ بمكانٍ لا ينتبهُ إليهِ الأغلبُ بعد أن عجزتُ عن إيجادِ مقعدٍ فارغٍ بجوار الأشجارِ..
وقفتُ في مكاني أتلذذُ بالنكهةِ اللذيذةِ للبوظةِ، وأيضاً برؤيةِ الأطفال يمتلئون حيويةً ولهواً..
بقيتُ أُراقبُ الأطفالَ في لعبهم.. وعلى بعدٍ لم أستطع معهُ التمييز مجموعةٍ أخرى من المراهقين.. فتياناً وفتياتٍ.. كثيرين في العدد.. واقفين في الهيئة.. يتحدثون مجتمعين.. يتمايلون على بعضهم.. فلا هم وقفوا ولا هم جلسوا! لكنهم كانوا يبدون أنهم على سعادةٍ يضحكون..
أكملتُ تناول نصيبي وُقوفاً، وهممتُ بالعودة بعد أن تذكَّرتُ نسياني لإحضار ذلك الكتاب الطبي.. فحرَّكتُ قدميَّ خارجاً، وبدأتُ أنتبهُ إلى جمعٍ من الأطفال ليس كأولئكَ الأطفال السابقين.. لا يلعبون مثلهم.. بل وقفوا من خلف بضائعهم يبيعون ما يُسلُّون به أولئك الأطفالَ المُترفين.
بعضهم يبيعُ "فشاراً".. وآخرُ "ذُرةً".. وذلك "مُكسراتٍ".. وبعضهمُ ألعاباً، وعند أحدهم وقفتُ أتأمَّلُ شكل ألعابهم.. كم هنالك من الفرق بين تلك الألعاب البسيطة التي كُنا نلعبُ بها في صغرنا، وبين هذه التي أراها الآن.. حتى "البالونات" الآن فيها من الألوان والتقنيات والتعرُّجاتِ والالتواءاتِ ما لم نرهُ في صِغرنا..

أدبرتُ ظهري خارجاً من الحديقةِ وأنا أتأمَّلُ مشهدين:
مشهدٌ لأطفال يتناولون أشهى وأشهر المأكولاتِ في العالمِ، ويزيدونها تحليةً بالبوظة الأشهر أيضاً، ويكملون عليها دفعاتٍ من "الفشار" و"الذرة".. ويشترون ما شاءوا من الألعابِ، ويترفهون أيضاً بألعاب الترفيه الأكبر حجماً كعرباتِ القطار.. وما شابهها..
هؤلاءِ الأطفال ملابسهم جميلةٌ ونظيفة.. يلعبون بحيويةٍ.. المراهقون منهم بنعومة الفتياتِ في اللباس والحركة والكلامِ.. والنساء متزيناتٍ بكل ما عرفنهُ إلى الحُليِّ والثياب و"الماكياج" سبيلاً!
ومشهدٌ في الحديقة ذاتهِ لوجوهٍ بائسةٍ، وثيابٍ باليةٍ، وملامح خشنةٍ.. يعكفون على تنعيمِ أطفال الطبقة المترفة!
مشهدٌ عجيبٌ فعلاً.. كم في هذا العالم من الظُلمِ والتمييز والطبقية!
ليس حراماً على من آتاهُ الله المال أن يتمتع به في الحلال.. وليس حراماً على من حرمهُ الله من كثرتهِ أن يسعى في طلبهِ بالقربِ من أولئكَ الأغنياء بالحلالِ أيضاً! لكن هل تظنون أنه لو دُفعت أموال الزكاة لسد حاجةِ أولئكِ المتعسرين فهل ستبقى تلك الوجوهُ البائسةُ على حالها؟!
هذا العالم القائمُ على منع الزكاة وتكثير المال بالربا والرشوة.. يتَّجهُ يومياً إلى ذلك الشكل المظلم من الطبقية.. غنيٌّ مترفٌ.. وفقيرٌ معدمٌ.. إلاَّ من رحم الله..

حتى لو دُفعت الزكاة فقد يستمر مع ذلك الفقراءُ في بيع أدوات الترفيهِ من الألعاب والأطعمة الخفيفةِ للأغنياءِ؛ لأنهم وجدوا المُتعة في بيعها.. ولكن دون تلك الوجوهِ المُكفهرَّة!
وتبقى السُّنة (ليتخذ بعضكم بعضاً سُخرياً)..

همزني بعبوطٌ قائلاً: أسرع إلى البيت لتكتب مقالكَ قبل أن تنساه!
عدتُ كما ذهبتُ مُتكِّئاً على مظلتي.. ما أطيب الاتكاءَ على العصا مع العافية!




د. ضياء مطر
Master Key
6/11/2008

الاثنين، 7 ديسمبر 2009

أولى رواياتي.. أريد أن أغازلَ مثلكِ!! ... الآن في الأسواق.





كانت تجربتي الأولى.. الرواية الواقعية: أريدُ أن أغازلَ مثلكِ!
تلك الرواية التي تابعتُ فصول أحداثها بسند الرواية والمشافهة والمعاينة لمعظم أبطالها.
روايةُ الحبِّ والتضحية.. والتي لن يستطيع كاتبٌ مهما أوتيَ من مَلكَة البيان وجودة الرصف أن يأتيَ بوصفها؛ لأنها تقدير من حكيمٍ عليم. ولذلك اجتهدتُ وكتبتُ ما استطعتُ من أحداثها الواقعية وتركتُ الخيال لما لم أشاهدهُ وعرفتهُ من أحداثها.
واليوم نزفُّ لكم بشرى نزولها إلى الأسواق السعودية بتوزيع دار طويق.
من هذا المكان الكريم، أشكر كل قارئٍ حفز هممنا للاستمرار في كتابتها بالرغم من ضيق الوقت والانشغال.
أشكر كل كريمةٍ راسلتنا بانتقاداتها وآراءها حتى بعد أشهر من إنهائها.
أشكرُ كلَّ من حفزنا لطباعتها..
واليوم أحتفل بكم وبها سويةً فأنتم هديتي وهي هديتي إليكم.. راجياً من الله القبول والتوفيق والسداد.
وبكل الحب والمودة: تهانينا!





د. ضياء مطر
Master Key
20/12/1430هـ
7/12/2009م

الأحد، 29 نوفمبر 2009

الإبداع في الحج

الإبداع في الحج

رحلة الحج رحلة مميزةٌ، لا تشابها رحلةٌ على الإطلاق؛ فهي رحلة العبادة ورحلة التجارة ورحلة التعرف على عباد الله الذين وفدوا إلى بيته العتيق من جميع أصقاع الأرض.
ومهما أوغلنا وتحدثنا عن هذه الرحلة العظيمة فإن حديثنا سيظل سطحياً؛ لا سيما أن الشريعة الغراء أتت ببعض فوائد هذه الرحلة على الوجه العام، أما المنافع الشخصية فكل إنسانٍ أدرى بحاله.

وفي هذه العجالة سأصحبكم مع طرفةٍ من طرائف هذه الرحلة، والتي أرتني تجربةً عمليةً لتنوّع أنماط التفكير لدى البشر مهما اختلفت عقلياتهم وتنوعت ثقافاتهم:

حينما كنّا نتحرك ونتجوّل في مكة وبين المشاعر المقدسة، كنا نشاهد آلاف الحجاج يتبعون لجاليةٍ مسلمةٍ من الصين، و أخرى من الهند وبضعة آلافٍ أخرى من بنغلاديش، وهلمّ جراً. الأهم كيف تسيرُ هذه الألوف المؤلفة خلف قائدها دون تيهٍ أو ضياع؟!
هنا ظهر الابتكار، وتنوّعت أساليب الإبداع من جاليةٍ إلى أخرى، ومن مُطوّفٍ إلى آخر؛ فلقد كانت عادة الكثيرين من مطوّفي الحملات رفع العلم الوطني لبلادهم على خشبةٍ طويلةٍ يراها أتباع جاليته من مكانٍ بعيدٍ، إلاّ أن هذه الطريقة غدت قاصرةً على بلادٍ تعدد فيها المطوفون!! فلزم حينها التجديدُ!!
رأيتُ في حج هذا العام ظاهرةً جديدةً لما يمكن تسميته بـ "راية الحملة"؛ حيثُ شاهدنا بعض المطوفين ربطوا قصبة صيد الأسماك بشعار الحملة أو بقطعة قماشٍ كُتب عليها شيءٌ يميزُ الحملة عن أخواتها، وأمّا التميّز فهو في إمكانية طيّ الراية ومدّها في مرونةٍ تامّةٍ!!

إلاّ أن هناك مجموعةً من الأفارقة الذين ارتسمت على ملامحهم علامات الفقر تماماً كحالهم البائس في قارتهم الغنية، مع حاجتهم إلى التمييز. فماذا فعلوا؟!
ربط مطوّفهم بخشبته الطويلة كيس نفاياتٍ أسود يخفق ذات اليمين وذات الشمال، وأتباعه يهرولون خلفه في منىً بحيويةٍ ونشاطٍ!!

وأما الجالية البنغالية – على ما أظن – فكان لها حظٌ من الإبداع والتجديد أيضاً؛ وبأسلوبٍ غير مألوفٍ!!! فلقد ربط أميرهم بعصا المكنسة قارورة ماءٍ فارغةٍ من سعة اللتر والنصف، وغدا مميزاً!!

أما الذي شدّني وأثار دهشتي فهو رجلٌ هندي على ما يبدو لم يجد سبيلاً إلى التميّز سوى رفع عصا العجائز وقد ربط بها ميداليةً أو علاقة مفاتيحٍ مضيئة تتبدل أنوارها بين الفينة والأخرى!!

وتنوّعت المشاهد بين من ربط إزاراً وآخر رداءاً وبعضهم قميصاً... فكانت كثوبٍ ضمّ خمسين رقعةً
مشكلة الألوان مختلفات!!!

وحينها أخذتُ أحدّثُ والدي والذي أخذته الدهشة أيضاً من هذه المناظر، واعتزامي على جمع طريفها في مقالٍ للشباب، عندها وخزني قائلاً ومشيراً بيده:
عندئذٍ لن ترى أعجب من هذا!!

رجلٌ يجري وقد ربط بخشبته ورقة شجرٍ اصطناعيٍ خضراء واحدة!

والحاجة أُمُّ الاختراع!! وكلُّ عامٍ وأنتم بخير.


د. ضياء مطر
Master Key
موسم حج عام 1426هـ

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

ربما خبيئة عمل!

ربما خبيئة عمل!

قبل بضعةِ أيامٍ كُنتُ مدعوَّاً على طعام العشاء أنا ورفيقي العزيز عند أحد أصدقائنا المُقربين، لنتناول شيئاً مما لذَّ وطاب مما تُعدهُ بكرمٍ ومودةٍ أُمُّه الحنون؛ إذ أنها أضافتنا إلى قائمة الأبناءِ لصداقتنا لابنها في محنتهِ.
جلسةٌ حملت معها غريبَ الأخبار، وتناقلتها مآسٍ مُنينا بها نحنُ الثلاثةُ في الأسبوعِ الماضي على اختلافٍ في النوعِ والمضمون.
ثم كان العشاءُ لذيذاً حمل معهُ يداً تُربِتُ بلطفٍ على أكتافنا لتقول: علَّها تُفرجُ عمَّا قريبٍ.
استأذنتُ للمغادرةِ؛ إذ أن بيتي بعيدٌ عن هذه المنطقة النائية وذلك يستلزمُ مني وقتاً طويلاً في العودة. غير أن صاحبي أهمل استئذاني وقال:
- أعرفُ أنكَ تُحبُّ القهوة التركية السوداء.. فهل لك أن تشرب معي بعضاً منها؟!

أجبتُ بترددٍ:
- أخشى أنني أحتاجُ إلى نومٍ قد يطيرُ بشرب ذلك الفنجان الصغير.. فهلا أعفيتني؟!

فردَّ عليَّ بثقةٍ:
- لا عليكَ.. أعرفُ أنك لن تتأثرَ به! ولذا فإن أمي تُعدُّهُ الآن.

صمتُّ بابتسامةٍ هادئةٍ، وأكملنا سهرتنا على فناجين القهوة اللذيذة والحلويات الشامية الفريدة!
أصبحَ الوقتُ مُقارباً لمُنتصف الليلِ، وبدا مُحتَّماً علينا المُضيُّ إلى منازلنا..





نزلتُ ورفيقي أدراج تلك البناية الجديدة، والتي اتخذت الحكومة حديثاً في أدناها مركزاً صحياً لرعاية الأمومة والطفولة في هذا المكانِ المُنعزلِ.
وما إن حاذينا باب ذلك المركز الصحي المقفلِ، والذي لم نكد نرهُ مفتوحاً لا في ليلٍ ولا في نهارٍ ولجَ إلى البناية بهرعٍ وفزعٍ رجلٌ ثلاثينيُّ الدهر حاملاً معهُ طفلةً صغيرةً لم تُجاوز من العمر الأشهر التسعة، وبإزائهِ عجوزاً قاربتِ الخمسين من العمر! وابنٌ لها شابٌّ أيضاً..
دخلوا ووقفوا وقد تملَّكهم الألمُ لحال رضيعتهم التي يحملونها بين أيديهم، وانزعاجٌ من مركزٍ صحيٍّ غادر أهلهُ إلى مضاجعهم، ولم يجدوا من يسألونهُ سؤالاً عُرفَ جوابهُ سوايَ ورفيقي قائلين:
- أبابُ المركز مقفلٌ؟!

أجبتُ بتقريرٍ:
- نعم، هو كذلك! ولكن ربما ليسُ الأمرُ نفسه بالنسبة لتلك العيادة القريبة.

أجاب الشابُّ الصغيرُ:
- بل إنها مُقفلةٌ بالفعل.

صمتُّ وأنا أنظرُ إليهم وقد سُقطَ في أيديهم، وبدت عليهم ملامحُ اليأسِ والأسفِ.
فبادرتُ القول لعلي أهوِّنُ مُصابهم:
- إن كانت لديكم سيارةٌ فعلى بعد بضعةِ كيلومتراتٍ من هنا مشفىً حكومي.

وبلهجةٍ أكثر يأساً قالتِ الأمُّ:
- ليس لدينا سيارةٌ.. أتينا سيراً على الأقدام من مكانٍ بعيدٍ.

خرجتُ عن صمتي، وقررتُ أن أحاولَ جهدي في أملكُ من أمري، فقلتُ:
- وماذا حصل لرضيعتكم؟

قالوا:
- الحرارةُ لديها مُرتفعةٌ، ولدينا إبرةٌ وصفها الطبيبُ لا بُدَّ أن تأخذها الطفلةُ الآن.
همَّ القومُ بالعودة مع ارتفاع اليأسِ لديهم أكثر من ارتفاعِ تلك الحرارةِ، ولكن سُرعانَ ما أشار رفيقي الطبيبُ إليِّ وقال لهم:
- هو طبيبٌ، وسيقومُ باللازمِ.

نظرتُ إليهِ، وأسررتُ في نفسي بشيءٍ من التوريط الأخوي لي؛ إذ أنك يا رفيقي طبيبٌ أيضاً؛ فهل تثقُ بي أكثر مما تثقُ في نفسك؟! أم أنك تُحاول توريطي؟!
كُلُّ ذلك زال مع شعورٍ بالارتياح ارتسم على وجوهِ أولئكَ الضُعفاء، وتكرارهم السؤال مُلحين:
- هل أنت بالفعل طبيبٌ؟! هل أنت فعلاً طبيب؟!

هززتُ رأسي مُجيباً، فارتفعت يدي المرأة بالدعاءِ وطلبت مني بلهفةٍ إعطاء الدواءِ.
كشفتُ اللثام عن الرضيعةِ، وجسستُ حرارتها، وفتحتُ بلينٍ فمها، وقلتُ لهم:
- ما اسم هذه الجميلة؟
- قالوا: عائشة.
- قلتُ: تعيشُ بسعادةٍ بإذن الله.

فنالهم بفألي بِشرٌ وارتياحٌ، وقلتُ مُعقِّباً:
- الطفلةُ بدأت بإنباتِ الأسنان، والحرارةُ ردةُ فعلٍ طبيعيةٍ لذلك. فهل تُعطونها خافضاً للحرارة؟!
- الأم: نعم، بدأنا بذلك اليوم.
- قلتُ: إذاً استمروا على ذلك الدواء بانتظامٍ ثلاث مراتٍ في اليوم، ولا تخشوا شيئاً بإذن الله.

ولكن الأم الملهوفةَ على حياةِ ابنتها قالت:
- الطبيبُ قال لا بُدَّ من أخذِ إبرةٍ وإلاَّ ستتدهورُ حالتها.
- قلتُ: أروني ماذا وصف لكمُ الطبيبُ؟

فأخرجتْ لي وصفةً طبيةً موقعةً من طبيبٍ ما بضرب إبرةٍ لمضادٍ حيويٍّ، لم أفهم حتى هذه اللحظة مغزاهُ، وبالطبع ليس لدي على أدراجِ بنايةٍ بنورٍ خافتٍ ما يُمكِّنني من فحصها بدقةٍ.

صمتُّ أُفكِّرُ في هذا المضاد واحتمالاتِ صرفهِ التي لا أراها ضروريةً على أية حالٍ، ولستُ أدري لماذا كنتُ أشعرُ برغبةٍ في التراجع عن علاجِ هذه الطفلة.. أهو لعدم توفُّرِ الإمكانياتِ لديِّ في هذا المُنعَزل؟!
نظرتُ إلى القومِ وقلتُ:
- لا بُدَّ من شراء هذا الدواء، وكذلك إبرةٍ معقمةٍ.
- قالوا: لقد اشتريناها سلفاً.

ومدُّوا إليَّ كيساً يحتوي ما طلبتهُ بالضبط.

نظرتُ إلى رفيقي وقلتُ:
- ينقصني التعقيمُ هُنا!
- رفيقي: هل أطلبُ لك من صديقنا أعلاهُ كحولاً أو عطراً تستعملهُ في التعقيم؟!
- قلتُ: نعم.

رفع هاتفهُ المحمول، وقال:
- أحضر من فضلك كحولاً أو عطراً أو شيئاً نُعقِّمُ به.
- صديقنا: وعلامَ تنوون الآن؟!
- رفيقي: نقومُ أدناهُ بما يجبُ أن يعملهُ مركزٌ صحيٌّ مغلق!

لحظاتٌ فقط، وعاد صديقنا بمسحاتٍ طبيةٍ معقمة، كما لو أتى بها من المشفى. فدُهشتُ لذلك أيَّما دهشةٍ، فما حاجةُ مهندسٍ كهربائيٍّ لمثل ذلك!
فتحتُ عُلبةَ الدواءِ، وتفحَّصتُ محتوياتها.. طلبتُ من رفيقي يُمسكَ لي بعض المحتويات لئلا أُنزلها إلى الأرضِ.
هممتُ كما أفعلُ دوماً أن أكسر عُنقَ الأنبوب الزُجاجي المغلق المحتويَ على المضاد، ولكنه ولأوَّلِ مرةٍ قاوم أصابعي بشدةٍ، وقرر الثبات!
هنالكَ فوجئتُ بالمرأة تمدُّ لي طرفاً من عباءتها وتقول:
- أمسك الأنبوب بعباءتي لكي لا تجرحَ يدك.
- قلتُ: شكراً لكِ؛ لكنني معتادٌ على ذلك.

سميتُ بالله ثانيةً، وأمرتُ العنق أن يخضع ليدي، فانكسر ببأسٍ شديدٍ.. فتحتُ الإبرة المعقمة، سحبتُ كميةً مقدَّرةً من السائل المائي.. فتحتُ علبة مسحوقِ المضاد الحيوي.. ضخختُ السائل.. مزجتُ الخليطَ.. سحبتهُ إلى الحُقنة، وأعدتُ ضخَّهُ ليختلطَ.. عيَّرتُ المقدار الموصوف، وقبل أن أتوجه بالإبرة إلى الجسد الصغيرِ، قرأتُ الوصفة مُجدداً، فانتبهتُ لأمر الطبيب بضرورةِ إجراء فحص الحساسية للمضاد..
شعرتُ بعدم الرغبةِ في الخوضِ مع قرويين في أمورٍ قد لا يفقهون مغزاها، وهممتُ بالانسحابِ، ولكن شعوراً قوياً كان يأمرني بالاستمرارِ.. سألتهم:
- هل حقنتم هذا الدواء سلفاً لابنتكم؟!
- أجابوا: نعم.

فارتحتُ لذلك، إذ لو كانت تتحسسُ لهذا الدواءِ فمن المحتمل أنني لم أرها الآن!
طلبتُ من الأم كشف مؤخرة طفلتها، وإمساكها لنقوم بحقن الإبرة. ففعلتْ، فرأيتُ ما ساءني رؤيتهُ، وهي لطخاتٌ من الدم المتخثِّرِ تحت الجلدِ.. فقلتُ لهم:
- أهي منذُ مدةٍ بهذا الحال؟!
- فأجابوا: هي وكلُّ إخوتها وأمها لديهم مثال هذا الشيء.. إنهُ ولا شكَّ من "وحم الحاملِ"!

التفتُ إلى صديقي بارتيابٍ وقلتُ باللاتينية:
- يبدو أن لديهم مرضاً وراثياً لسيولة الدم.

شجعني قائلاً:
- لا عليك، يحصلُ ذلك كثيراً للأطفالِ الذين ينامون دون تقليبٍ لفتراتٍ طويلةٍ.

فكَّرتُ برهةً، وقررتُ المضيَّ مُعتمداً بعد الله على أن الطفلة أخذت حُقناً سالفةً.. ولو صدقت ظنوني فلن يكونَ شكلُ الطفلة كما أراها الآن.
سمَّيتُ بالله.. عقَّمتُ الموضعَ.. ووخزتُ الحقنة بيدٍ مُدِحَت كثيراً بخفتها في الحُقنِ.. وسرى الدواء في الجسد العليل.



أنهيتُ مهمتي، وكسرتُ الإبرة، وخرجتُ إلى الشارع أبحثُ عن نفايةٍ أرمي فيها تلك الإبرة المُستعملة لئلا يعبث بها الأطفالُ مع الصباح. وفي تلك الأثناء مدَّت المرأةُ ببعض النقودِ إلى صديقي كمكافأةٍ على صنيعنا، فردَّها بأدبٍ قائلاً:
- إننا لا نأخذُ شيئاً على ذلك.

فأخذت تدعو لنا وتشكرنا بما نعجزُ عن تذكُّره.

ولَّوا بطفلتهم، وأخذنا نسيرُ على أقدامنا أنا ورفيقي في ذلك الطريق الساكنِ المُظلمِ..
قال حينها رفيقي:
- جزاك الله خيراً.. أحسنتَ صُنعاً.

صمتُّ وقلتُ:
- أتعرفُ يا صديقي ماذا خطر ببالي وأنا أضربُ تلكَ الإبرة؟!.. خطر بذهني أنهُ ليس عجباً أن نداويَ مريضاً أتى للعلاجِ، ولكنني أشعرُ أن في تلك المرأةِ صلاحاً أو تقىً ساق الله لها كرامةً طبيبين وليس واحداً في منتصفِ الليل في مكانٍ ناءٍ على غير ميعادٍ في وقتٍ أقفلت المراكزُ الصحيةُ أبوابها أمام الزوار.. فعجبي لذلك شعرتُ أنه أُرغمتُ على علاجها ولم يكن لي والله في ذلك خيارٌ بل أنني حاولتُ جهدي ألاَّ أُورِّط نفسي بعيداً عن كل الصيدلياتِ والمستشفيات!

ابتسمَ صديقي وقال:
- من يدري.. لربما ما تقول يكونُ حقاً.

استغرقَ الأمرُ وقتاً حتى عدتُ إلى منزلي في عتمةِ الليلِ، وخلدتُ إلى الفراش بنعاسٍِ لم يؤثِّر فيه كوب قهوةٍ تركيةٍ سوداء!



د. ضياء مطر
Master Key
27/10/1429هـ
26/10/2008م

الجمعة، 24 يوليو 2009

ثأرٌ ولو بعد حين

لون النص
ثأرٌ ولو بعد حين


حدثني والدي يوماً ونحن نتسامرُ على أكوابٍ من الشاي والمُكسَّرات:
عُيِّنتُ أوَّلَ قدومي إلى المملكة عام 1402هـ في مدينة الدمام بمدرسة الخليج العربي الابتدائية، والواقعة -كما تعلمُ- يا بُنيَّ في شارع الملك عبد العزيز القريبِ من السوق المركزي، وتلك منطقةٌ مكتظةٌ بالسيارات والمارَّة على مدار العام.


ذهبتُ صباح أحد أيام الدوام بسيارتي الرصاصية اللون من نوع (مازدا 929) من إنتاج العام 1979م، وأخذتُ أبحثُ في الجوار عن فندقٍ أو نُزُلٍ يُقلُّ سيارتي إلى حين عودتي مع انتهاء الدوام المدرسي، فهداني ربي إلى إيداع سيارتي في مكانٍ مُلاصقٍ لسور مدرستنا.. فاستودعتها.. وودعتها.. وذهبتُ لأداء واجبي في نقل المعارف والعلوم، وغرس المبادئ والقِيم والتربية في تلك النفوس الصغيرة.
انتهى اليومُ المدرسيُّ أخيراً، وأُعتقت رقابنا لنعود إلى منازلنا إذ كانت الزوجاتُ والوَجَباتُ بانتظارنا!
خرجتُ من المدرسة، ووقفتُ أمام سيارتي مندهشاً مستغرباً لوعكةٍ صحيةٍ شديدة ألمَّتْ بِها، غير أنها كانت من الأمراض النادرة ولا شكَّ؛ إذ أنني فوجئتُ بأن مؤخِّرة سيارتي قد غطست إلى قاع خانتها على هيئةٍ دائريةٍ كبيرةٍ، فكانت كنيزَكٍ سَقَط من السماء مستقرَّاً فوق الخانة الخلفية لسيارتي الجميلة. وبدا ذلك لي مُدهشاً أيما دهشةٍ؛ إذ توقَّعتُ بسهولةٍ أن تُصاب في ذلك الازدحام برضَّةٍ من الخلف، أو جرحٍ من الجانبِ، أو شيء من ذلك قريبٌ، غير أنني أغفلتُ تماماً أي شكلٍ محتملٍ لما يشبهُ النيزك!
استرجعتُ وحمدتُ الله.. وأصلحتُ سيارتي.. ونسيتُ تلك الحادثة من ذاكرتي، غير أن غرابتها لم تزل تراودُ ذهني كلما مررتُ بجوار ذلك البناء.. فلا أكثر من الدهشة والابتسامة.
اليوم هو أحد أيام الدوام المدرسي للعام 1428هـ وعملي اليوم كوكيلٍ لمدرسة ابتدائيةٍ.
كنتُ جالساً في مكتبي حينما طرق بابي واستأذن بالدخول رجلٌ في العقد الثالث من عمرهِ، ممتلئ البُنيةِ، ضخم الهامة، قوي الجسد؛ إذ عرفتُ ذلك حينما صافحني وهزَّ يَدِيَ بحرارةٍ، والبِشرُ والأدبُ يفيضان من مُحيَّاهُ.
طلبتُ منهُ الجلوس على أريكةٍ وثيرةٍ في مكتبي، وطلبتُ من الخادم إحضار فنجانين من القهوة وشيئاً من الرُّطبِ، وجلستُ مواجهاً لذلك الضيفِ مُرحِّباً ومؤهِّلاً..
قلتُ للضيفِ:
- أشكرُ لك حضورك، إذ كان مهمَّاً الجلوس معك لأجل ابنك "حَمَداً" الذي نقلتهُ حديثاً إلى مدرستنا.

ابتسم الرجلُ بلطافةٍ:
- يجبُ أن أعتذرُ منكم على تأخري في القدوم، إذ أنني أعملُ عقيداً في الحرس الوطني بالرياض، ولا أتمكَّنُ من الحضور إلى الدمام دوماً..

أخذتني الغرابةُ وقلتُ:
- إنهُ لمرهقٌ جداً أن تعمل في الرياض وتُبقي أولادكَ في الدمام. أفلا تنقلهم إلى جوارك؟!

هزَّ الرجلُ رأسهُ نافياً، وقد بدت في عينيهِ علاماتُ رجلٍ فقد السيطرة:
- كنتُ أرغبُ بذلك، لكن زوجتي وأولادي رفضوا الانتقال معي إلى الرياض، إذ أنهم يعشقون الدمام حتى النخاع، ولن أخفي أنا أيضاً عشقي لها؛ فقد وُلدتُ وترعرعتُ ودرستُ الابتدائية والمتوسطة والثانوية في الدمام.

أخذني الفضولُ لأسأل:
- أين درستَ الابتدائية يا أبا حمد؟!

دارت عينيْ أبا حمدٍ في محجريها، كأنما كانت تقرأُ صفحةً طُويت من تاريخها، وقال:
- درستُ في مدرسة الخليج العربي الابتدائية.

جاء في نفسي شيءٌ، وأضمرتُ في نفسي شيئاً لم أستطع البوحَ بهِ.

وأكمل الرجلُ حديثهُ:
- إنني أرتاحُ لرؤية الأفاضل مثلكَ أيها الأستاذُ الكريم، فلقد بذلتم لنا حياتكم، وقدمتم لنا الغالي والنفيس، وقابلناكم بالشغب والإزعاج والمشاكساتِ.. وليت الأيام تعودُ لنتوب عن سوء فِعالنا.

أجبتهُ بلسان حال معلمٍ قضى من عمره خمسة وثلاثين عاماً في مقارعة الأبالسة الصغار أن ذلك يحدثُ دوماً، وإننا نؤدي واجبنا تجاه الطلاب بكل سعادةٍ وإن لاقينا منهم كل الأذى. ولكن الرجل زاد في حديثهِ قائلاً:
- أعتذر يا أستاذي، لكننا كنا أكثر إزعاجاً ومشاغبةً عن الحد الطبيعي.

بدت في ملامح أبي حمدٍ ملامح الألم وهو يقول:
- أتصدِّقُ يا أستاذ! هنالك معلمٌ أجرمتُ بحقِّه وأتمنى لو أراهُ فأكفِّر عن خطأي وأعتذر إليهِ؛ فلقد حدث في أحد أيام المدرسة الابتدائية أن قررتُ الهرب من الدوام المدرسيِّ، فتسلَّقتُ سور المدرسة المرتفع، وأردتُ النُزول إلى الأرض، فكان الخوفُ أعمقَ في نفسي من ارتفاعِ السور، فهداني تفكيري لأقفز على سيارةٍ رصاصية اللون كانت تقبعُ بمحاذاةِ الجدارِ، فهبطتُ بجثتي العظيمة التي تراها أمامك والتي لم تختلف كثيراً عن تلك الأزمان على مؤخرة تلك السيارة، فأحدثتُ فيها فجوةً دائريةً رهيبةً! فأخذتُ كُتبي ووليتُ هارباً دون تفكيرٍ أو اعتبارٍ.. صدِّقني يا أستاذي لو وجدتُ صاحب تلك السيارة سأبذلُ لهُ كلَّ ما يُريدُ لقاء أن يسامحني!!

ابتسمتُ في نفسي ابتسامةً عميقةً كتمتها قهراً، وتصنَّعتُ غَضَباً، وأمسكتُ بيدي على يد أبي حمدٍ بشدةٍ، وقلتُ:
- أمسكتُ بكَ أخيراً يا عدوي منذُ ربع قرن!

فزِعَ الرجلُ، وقال بعفويةٍ:
- أُتركني.. ماذا فعلتُ لك؟!

قلتُ بغضبٍ مُصطنعٍ أيضاً:
- أنا صاحبُ تلك السيارة! وأنت من حطَّمها أيها السمين!

قام الرجلُ بوجلٍ لا يوصف، وخجلٍ لا يبهتُ احمرارهُ مشتملاً رأسي يُقبِّلهُ ويقولُ:
- اعفُ عني يا أستاذ.. سأعوِّضُكَ ما تُريدُ!

أسندتُ ظهري إلى الأريكة ضاحكاً لا أقوى على الهدوءِ، بينما سكن روعُ الرجلِ، وقلتُ له:
- لا بأس عليكَ.. لقد عفونا عنك من ساعتها.. ولكنني أحببتُ مداعبتكَ.

اعتذر الرجلُ وقبَّل رأسي ثانيةً وأوصاني بابنهِ خيراً.. وانصرف.

أخذتني الدهشةُ والذهول، والابتسامةُ تُداعبُ وجنتيَّ، وقولي بقول أهل الشام:
عجباً.. (الدنيـــا صغيرة)!


ضياء مطر
1/9/2008م
1/9/1429هـ

الاثنين، 20 يوليو 2009

انتهى بي المطافُ لأدلِّك قطَّاً!

انتهى بي المطافُ لأدلِّك قطَّاً!





قبل أيامٍ حملتُ كتابي، وذهبتُ إلى حديقتي المفضلة، أشتري من البوظة، وأتمتعُ بأكلها، بينما أُقلِّبُ صفحاتِ الكتاب، على شيءٍ من شغبِ الأطفالِ، وحركتهم، والتي تُبهجُ النفس؛ لاسيَّما إن كُنتَ عازباً!

ولا أخفيكم سبباً آخر أنني بذهابي للحديقة فإنني أُحرِّكُ ظهري الذي قتلني ألماً، إذ مما جرى بهِ قدر الله على أي عاشقٍ معتكفٍ للكتب أو للحاسوبِ أن يعاني آلاماً مزمنةً في الظهرِ، تستوجبُ العلاج الطبيعي، وهذا ما أفتقدهُ في ديار الغربة؛ إذ أن أكثر المراكز المختصة بالتدليك إن لم تكن كُلُّها تقومُ عليها مشبوهاتٌ غانياتٌ من دول شرق آسيا، يجلسن على مداخلِ تلك المراكزِ بوضعياتٍ مريبةٍ، وكأنهنَّ يُعلنَّ عن كلِّ شيءٍ عدا التدليكِ، ناهيك عن أن تلك المراكز تُباعُ فيها الخمورُ، ولا شكَّ بأنَّ هذه البيئة لا تناسبني.
ولذلك فقد صبرتُ على الألم أكثر من أسبوعين ولم أجد من يدلكني ويريحُ ألمي، وحتى مسكِّناتُ الألم لا تجدي معي نفعاً، والأغربُ لطبيبٍ مثلي أن أدوية التنويم أيضاً لا أستجيبُ لها، بل أشعر أنها تساعدني على الاستيقاظ! والسببُ لديَّ مجهولٌ، فلم أدخن قطُّ ولم أتعاطى المخدِّراتُ يوماً من حياتي والقهوةُ أتعاطاها –على عشقها- بحذرٍ! لكن يغلبُ ظني وكما لا يصدق الكثيرون أنني في العادة أنامُ وعقلي يُفكِّرُ، وعليه فجسدي يرفضُ النوم أصلاً إلاَّ ما أُكرهَ عليهِ!

كنتُ أقولُ في موضوع الحديقة، أنني وأثناء جلوسي في زاويةٍ منها على أحد المقاعدِ رأيتُ قطاً على بُعد أمتارٍ مني يعبثُ ويلعبُ كعادة أي قطٍّ، وبحكم خبرتي في مصادقة القطط –إذ صدف أنني أسكنتُ قطاً في غرفتي بالسكن الجامعي لشهور طويلة-فقد أشرتُ للقطِّ بحركاتٍ تدعوهُ لأني يأتي نحوي، وبالفعل استجابَ وأتى.
أخذتُ أداعبهُ، وأمسحُ رأسهُ -وذلك مما يُسعدُ القططَ كثيراً-، ثم ما لبث أن انطلق على إثرِ كيسٍ حرَّكهُ الهواءُ، ثُمَّ عادَ إليَّ ثانيةً، وهذه المرة ليس على الأرضِ، بل صعد على الطاولةِ، ووضع جسدهُ على كتابي، وأدنى رأسهُ من يدي، ففهمتُ أنهُ يريدُ أن أداعبَ رأسهُ ثانيةً، ففعلتُ ذلكَ، بل أخذتُ أفركُ رأسهُ وفروهُ، فيبدو أن ذلك أعجبهُ! فكنتُ كلما رفعتُ يدي عنهُ أدنى رأسهُ أو جذعهُ من يدي، مُستحثَّني على التدليكِ!
بقيتُ ما يقربُ من الربعِ ساعةٍ تقريباً وأنا أُدلِّكُ السيد قط، وأقول لهُ:
- خذ راحتك يا أبا الشباب، أبحثُ عمَّن يُدلِّكني، فأنتهي بتدليككَ!



ثم يبدو أن القِطَّ استراحَ، فقام عن الطاولةِ وولى، وربما لأنني انشغلتُ عنهُ بمكالمةٍ هاتفيةٍ.
تركتُ الكتابَ، وأخذتُ أتأمَّلُ الموقفَ مفكِّراً:
قلتُ: إنَّ الله يُثيبُ في إطعامِ الحيوانِ (وفي كُلِّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ). فهل في تدليكُ هذا القطِّ ومداعبتهِ يا تُرى أجرٌ؟!
قد يكونُ التدليك من باب الكماليات بالنسبة للحيوان، وليس إنساناً ليكون فيهِ دليل (.. وإدخال السرور على قلبِ أخيكَ المسلم..).

فضحكتُ وعدتُ إلى منزلي عجباً من حال التفكُّر، وعزمتُ على بحثِ المسألة!

نسيتُ الأمر في زحمة الحياةِ والأيام..

تذكرتُ الموقفَ بالأمسِ، وتلمَّستُ ظهري، أين الألم؟! لم أعد أشعرُ بهِ، بل إنني نسيتُ أمرهُ، ويبدو أنهُ غادرني منذُ أيامٍ ولم أشعر بذهابهِ!

حمدتُ الله، وعرفتُ أن كرم الله وفضله أوسع من مقاييس البشر وتصوراتهم، وعزمتُ على هذه الخاطرة!


لون النصضياء مطر
Master Key
15/5/1430
9/5/2009

لون النص



الثلاثاء، 14 يوليو 2009

بين السماءِ والأرض

بَين السَّماءِ والأرض!

حدث قبل أربعة أشهرٍ أن كنتُ أحزمُ أمتعتي لزيارةِ الأهلِ والترويحِ عن النفسِ، فكنتُ أضعُ في حقيبتي ما خفَّ حملهُ ولزمَ لهذه الرحلة القصيرة.صباح يومِ السفرِ، فتحتُ دُرجَ الأدوية في غرفتي، وأخرجتُ الأدويةَ الخاصة بطوارئ الطائرةِ من الدوار والتَّقيؤِ والمنوماتِ وما شابه ذلك. وعلى الرغم من أني بحمد الله لا أحتاجُ إليها ولا أعاني من أي تلك الأعراض لا في برًٍّ ولا بحرٍ ولا جوٍّ، غير أنني أتناولُ منها للاحتياطِ قبل صعود الطائرةِ بساعةٍ تقريباً.









أخذتُ الحبوبَ التي أحتاجها، وأعدتُ العُلب إلى درجِ الأدويةِ؛ غير أن خاطراً همَّ في نفسي قائلاً: لمَ لا تأخذُ كلَّ علب الأدويةِ معك بدلاً من أخذك لاحتياجكَ فقط؟!فكنتُ أجيب على نفسي قائلاً: ما احتاجهُ حبةٌ أو حبتين. فلماذا أُثقلُ نفسي بثلاث علبٍ من الأدوية أو أكثر؟!فكانت تُجيبني نفسي: وهل ستُثقلكَ تلكَ العُلب؟! وماذا ستخسر بحملها؟!
طاوعتها، ووضعتُ العلب في حقيبتي اليدوية، وغادرتُ المنزلَ إلى المطار.



وصلتُ مُبكِّراً، أنهيتُ كُلَّ الإجراءاتِ، وسلَّمتُ أمتعتي، وانتظرتُ وقت صلاةِ الظُّهر فجمعتها بالعصر لأن الرحلة لن تصل قبل المغربِ إلى محطتها الأولى، وجلستُ في صالةِ الانتظارِ أقرأُ كتاباً.



لفتَ نظري وأنا جالسٌ هنالكَ امرأةٌ عجوزٌ ربما لم أرَ في حياتي من هو أكبر منها سناً! لا أدري تُقيَّمُ بتسعينَ سنةً أو تزيدُ. هكذا بدت لي. لكن ما أدهشني في الأمرِ أنها كانت تنظرُ إلى الجالسين في الصالةِ بعشوائيةٍ، وتشيرُ بسبَّابتها إلى الأعلى!لا أدري ما الذي كانت تعنيهِ بالضبط حتى وصلت بدورها إليَّ ناظرةً وأشارت بسبَّابتها إلى الأعلى!أشرتُ بيدي أنني لم أفهم مغزاها، فأعادت الإشارة!قمتُ من مكاني إليها وهتفتُ فيها:- السلام عليكم، هل تحتاجين شيئاً يا أُمَّاهُ؟!
ردَّت السلامَ، وقالت:- لا يا بُنيَّ، غير أنني أُذكِّركَ بصلاتي الظهر والعصرِ، فستفوتكَ في الرحلةِ إن لم تُصلِّيها الآن، وهنا يوجدُ مُصلَّىً...
وأشارت بيدها إلى غُرفةٍ زُجاجيةٍ.
أكبرتُها في نفسي كثيراً، وقلتُ لها:- صليتُ ولله الحمدُ، وجزاكِ الله خيراً للتذكير.



أقلعت الطائرةُ في الجوِّ، وارتفعت إلى ارتفاعِ اثنينِ وثلاثين ألف قدمٍ باتجاهِ "دُبي" كمحطةٍ مؤقتةٍ، وانتصفت في طيرانها صحراء الربع الخالي الفسيحة، فكنتُ أنظرُ من النافذةِ إلى تلكِ الكُثبانِ، وقد تشكَّلت كأمواجِ البحرِ، ولكنها قفرٌ مُرعبةٌ كلوحةٍ فارغةٍ لا تحوي سوى الكُثبان!

أثناءَ ذلك، داهمني النُّعاسُ لقلة ما نِمتهُ في الأيامِ الماضية وأخصُّ الليلةَ، فقررت أن أُغطِّي وجهي بشماغي وأرتخيّ لعلي أنامُ، إن استطعت!

ربما نمتُ عشر دقائق أو رُبعَ ساعةٍ، وبدأتُ أشعرُ باضطرابٍ وأصواتٍ تصدرُ من المقاعد التي تقدمني مُباشرةً.




نفسي تقولُ لي:


- ما الذي يجري؟! هل حدث مكروهٌ يا تُرى؟!

فأجيبها:
- لا أدري، والنُّعاسُ يغلبني فلستُ بمستعدٍ حتى لكشفِ وجهي لرؤيةَ ما يجري.


فتقولُ لي بأسىً:
- لا تتصنع البرودَ وعدم المُبالاة! أنت تُريدُ أن تعرف ما الذي يجري!

فكنت أُدافعها:
- يا نفسي دعيني، فما الذي يعنيني في ذلك أو يُهمني. كما ما الذي أنفعهم بهِ؟!



فتقولُ بعبرةٍ:
- لعلَّهُ مريضٌ يريدُ مساعدتكَ!


فأضربها وأزيدُ في تغطيةِ وجهي:
- وماذا أستطيعُ فعلهُ هنا؟! حتى السمَّاعةُ لستُ أحملها، وعلى فرضِ أنني قادرٌ على علاجٍ فالأدويةُ والتي تستلزمُ الإبر ليست لدي!



قَبَّلت نفسي قلبي وقالت:
- ناشدتكَ الله إلاَّ قُمتَ وعرفتَ ما يجري!!


فأعدتُ الشِّماغَ إلى خلفِ رأسي، ومددتُ رقبتي ، ونظرتُ، فرأيتُ المضيفاتِ يقفون محاذين للمقعد الذي أمامي وشخصٌ من الجهة الأخرى كذلك، وكلهم اضطرابٌ، وأسئلةٌ تتطايرُ:
- ما بكِ؟!
- هل أصابكِ مكروهٌ؟!
- هل تستطيعينَ التنفُّس؟!
- هل أنتِ مريضةٌ بشيءٍ؟!


أخرجتُ النظارةَ من جيبي، ونظرتُ إليهم قائلاً:
- ما الذي يجري؟! هل حدثَ مكروهٌ؟!


فأجابتني مُضيفةٌ لهجتها خليجيةٌ مشوبةٌ بقلقٍ:
- نعم! هذه العجوزُ مرِضت فجأةً!


فأجبتها، وأنا أقفُ نازعاً الشِّماغ عن رأسي:
- ما الذي جرى بالضبط؟! فأنا طبيبٌ.


شَعَرتْ بالارتياحِ، وقالت:
- يقولُ هذا الشابُّ الذي بجوارها أنها أخذت ترتجفُ فجأةً وتمسكُ على صدرها.

كنت حينئذٍ واقفاً فوقَ رأسِ المريضةِ، فكانت تلك العجوزُ التي كانت تُذكِّرنا بالصلاةِ في المطارِ.فسألتها
- ما الذي تشعرين بهِ يا أمي؟!


فقالت وهي تُمسكُ بصدرها ورقبتها:
- جسدي يهتزُّ، أشعرُ بألمٍ!


سألتُ الشابَّ الذي بجوارها بينما كانت يداي تفحصُ نبض المريضةِ ونفسها:
- هل أنتَ ابنها؟!


فأجاب:
- لا، ولكنها من قريتي وأعرفها.





فسألتهُ:
- هل تذكرُ ما حدثَ لها؟!


فقال نفسَ ما قالت. فسألتهُ إن كانت تُعاني من أمراضَ مُزمنةٍ، فأجابَ بالجهلِ.

أخذتُ أفحصُ كلَّ ما قدرتُ عليهِ بلا أجهزةٍ، غير أن كل شيءٍ كان سليماً، وعلى الرغم من قلة ما بيدي فعلهُ بالفحص؛ غير أننا ولظروف الديارِ التي درستُ فيها قد درَّبونا على الوصول إلى التشخيص قدر الإمكانِ بلا أجهزةٍ! ولكم كان ذلك صعباً ومتعنِّتاً!مبدئياً، المرأةُ سليمةُ القلب والنفسِ والسوائل والأملاحِ، ولا خطر يُهددُ حياتها، وعلى ما يبدو أنها أُصيبت بدوارِ الطائرة، ولم تستطع التعبير عن ذلكَ بالشكلِ الصحيحِ، غير أن خوفهم كان مبرراً؛ فامرأةٌ بهذا العُمر محتملٌ أنها تعرَّضت لنوبةٍ قلبيةٍ أو ما شابههُ.

التفتُّ إلى الشابِّ ومن حولي من طاقمِ الطائرةِ، وقلتُ لهم:
- المرأةُ تعاني فقط من دوار الطائرة، ولا شيء يُهددُ حياتها إن شاء الله.


وقلتُ للعجوزِ:
- إن كانت لكِ الرغبة في التقيُّؤ فلم لا نأخذكِ للحمامِ، فذلك سيساعدك على امتصاص الدواء الذي سنعطيهِ لكِ.



فردَّت بالإيجابِ، وأخذتها المضيفةُ إلى الحمامِ، بينما أتتني نفسي تقولُ:
- هل أنتَ مُتأكِّدٌ من التشخيصِ؟!


فقلتُ بثقةٍ لها:
- نعم، هذا ما وجدتهُ.


فقالت مُترددةً:
- إنها عجوزٌ كبيرةٌ في السنِّ، وأخشى أن تكونَ هذه نوبةٌ قلبيةٌ.


قلتُ لها مُغضباً:
- لا! الفحصُ سليمٌ، ثم لو كان القلب –لا سمح الله- فما بيدي شيءٌ أفعلهُ إلاَّ قليلاًَ!


قالت:
- تأكَّد! فلن يكونَ منظرك جميلاً والجميعُ يُشيرونَ إليكَ أنك أخطأت التشخيصَ، وقصَّرتَ في إنقاذِ حياتها!


قلتُ لها بغضبٍ:
- أُغربي عن ذاتي! أنا واثقٌ من التشخيص، وهذه حدودُ الإمكانيات المتاحة في الطائرة.


فولَّت بصمتٍ مع عودةِ العجوزِ، فأمرتُ المُضيفةَ بإحضارِ ماءٍ، وقمتُ إلى حقيبتي لإحضار الأدوية التي تُناسبُ حالتها تماماً، والتي لم أكن أرغبُ بحملها!!

أعطيتُها الدواء، ووضعتها في وضعيةٍ مناسبةٍ، وأمرتُ قريب قريتها بمراقبتها، ومناداتي إن حصلَ شيءٌ. وعدتُ إلى مقعدي ببرودٍ أقرأُ في كتابٍ وكأنَّ شيئاً لم يحصل للتو!


دقيقةٌ وأتى مُضيفٌ وسألني:
- هل العجوزُ بخيرٍ؟! هل حالتها خطيرة؟!


قلتُ:
- لا، مجرَّد دوارُ الطائرةِ، وأعطيتها العلاج.


ولِّى عني إلى قُمرةِ القيادة، وعدتُ أقرأ مجدداً.

بعد خمسِ دقائق أتت المضيفةُ الخليجيةُ، وسألت السؤالَ ذاته، فأجبتها كإجابتي، فشكرتني وذهبت إلى قُمرة القيادة!
بعد دقيقتين أتت مُضيفةٌ شرقُ آسيويةٍ، وسألت بالإنجليزية السؤال ذاتهُ، فأجبتها بالجوابِ ذاتهِ، فأمسكت على فمها، وقد احتبست الدموعُ في عينيها، وهي تقولُ:
- "Thanks To GOD".. "Thanks To GOD"
"شكراً لله".. "شكراً لله"!


فقلتُ لها بالإنجليزية ما مفهومهُ:
- ما الذي يجري؟! أنتِ ثالثُ مضيفٍ يسألني ذلك؟! هل في الأمر خطأٌ ما؟!


فأجابتِ بسعادةٍ:
- كدنا نُجري هبوطاً اضطرارياً، فلقد ظننا أن المرأة تحتضرُ! ولابدَّ من الهبوطِ لإسعافها!


فقلتُ:
- اطمئني، إنها بخير ولا داعي لذلك!


أكملت بعبرتها المخنوقة:
- "Thanks To GOD" .. "Thanks To GOD"

وحقيقةً لم يخلو ذلك الموقفُ من دهشتي، وتذكري قول الله تعالى:(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) العنكبوت 65.

نظرتَ إليَّ بامتنانٍ، وقالت وهي تكفكفُ حالتها السابقةَ قائلةً:
- "Thanks To GOD" No.. No! Thanks to you are here!"شكراً لله".. لا.. لا.. شكراً لأنك هنا"!


وهنا صحتُ فيها:
- "No! Only thanks to GOD""لا. الشكر لله وحده".


لكنها كانت قد انحنت شاكرةً وتحرَّكت، ولا أدري أعقلت ما قلتُ أم لا!
عدتُ إلى النافذةِ، ونظرتُ إلى الكُثبان الرملية المخيفةِ أسفلنا، وقلتُ:
- هل كُنَّا سنهبطُ هنا؟!

أسندتُ ظهري لمقعد رحلةٍ علمتني الكثير.


ضياء مطر
Master Key
17/5/2009

رواياتي كلها في روابط مباشرة للتحميل

مساؤكم بالخير والأدب:

كثيراً ما طالبني قُرائي الكرام إنزال رواياتي في ملفاتٍ مستقلةٍ يسهل لهم قراءتها فيها، دون العودة إلى صفحات المنتدياتِ، واستجابةً لمطالبهم الكريمة أُنزلها لكم على هيئة (PDF)، وذلك خلال الروابط التالية:



أريدُ أن أغازلَ مثلكِ
تم إصدار الرواية مطبوعةً في الأسواق السعودية باختلافات مميزة عن الموجود في الرابط الإلكتروني لذلك تمت إزالتهُ.

البحث عن المدينة الفاضلة 1
http://www.fileflyer.com/view/Md3aqBB

البحث عن المدينة الفاضلة 2 - أسرار المخيم
http://www.fileflyer.com/view/lbWsHAj

البحث عن المدينة الفاضلة 3 - المنظمة
http://www.fileflyer.com/view/Zp5THAj


أتمنى أن توافوني بأرآئكم واقتراحاتكم حولها، وسأكون لكم من الشاكرين.

حياكم الله.. ودمتم قرَّاءً.

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهُ


يطيب لي بكل المحبة والمودة أن أرحب بكم قرائي الأعزاء على ضفافِ المدادِ، وساحلِ النصلِ، ناحراً ضيافتكم من بهائمِ الحرفِ بسيفِ القلمِ، واعداً إياكم بأفضل ما اطيقُ كتابتهُ أو طهيهُ من رواياتٍ وقصصٍ أدبية لطيفةٍ لا تخلو من متعةٍ وحرفٍ أدبيٍّ هادفٍ بإذن الله تعالى، جامعاً في هذه الصفحة ما سبق أن بعثرتهُ في المواقعِ والمنتدياتِ.


فلكل زائرٍ لقلعتي أعطيهِ مفتاحاً يلجُ بهِ الأبوابَ، ومع مغادرتهِ مستمتعاً ننتظرُ منهُ أن يكتبَ لنا كل رأيٍ وتعقيبٍ قد يكونُ لذيذاً لضيافةٍ قادمةٍ بإذن الله. ننحرها موافقةً للسنةِ، وبمديِّ اسمهُ: (سيفُ القلم).





د. ضياء مطر