الثلاثاء، 14 يوليو 2009

بين السماءِ والأرض

بَين السَّماءِ والأرض!

حدث قبل أربعة أشهرٍ أن كنتُ أحزمُ أمتعتي لزيارةِ الأهلِ والترويحِ عن النفسِ، فكنتُ أضعُ في حقيبتي ما خفَّ حملهُ ولزمَ لهذه الرحلة القصيرة.صباح يومِ السفرِ، فتحتُ دُرجَ الأدوية في غرفتي، وأخرجتُ الأدويةَ الخاصة بطوارئ الطائرةِ من الدوار والتَّقيؤِ والمنوماتِ وما شابه ذلك. وعلى الرغم من أني بحمد الله لا أحتاجُ إليها ولا أعاني من أي تلك الأعراض لا في برًٍّ ولا بحرٍ ولا جوٍّ، غير أنني أتناولُ منها للاحتياطِ قبل صعود الطائرةِ بساعةٍ تقريباً.









أخذتُ الحبوبَ التي أحتاجها، وأعدتُ العُلب إلى درجِ الأدويةِ؛ غير أن خاطراً همَّ في نفسي قائلاً: لمَ لا تأخذُ كلَّ علب الأدويةِ معك بدلاً من أخذك لاحتياجكَ فقط؟!فكنتُ أجيب على نفسي قائلاً: ما احتاجهُ حبةٌ أو حبتين. فلماذا أُثقلُ نفسي بثلاث علبٍ من الأدوية أو أكثر؟!فكانت تُجيبني نفسي: وهل ستُثقلكَ تلكَ العُلب؟! وماذا ستخسر بحملها؟!
طاوعتها، ووضعتُ العلب في حقيبتي اليدوية، وغادرتُ المنزلَ إلى المطار.



وصلتُ مُبكِّراً، أنهيتُ كُلَّ الإجراءاتِ، وسلَّمتُ أمتعتي، وانتظرتُ وقت صلاةِ الظُّهر فجمعتها بالعصر لأن الرحلة لن تصل قبل المغربِ إلى محطتها الأولى، وجلستُ في صالةِ الانتظارِ أقرأُ كتاباً.



لفتَ نظري وأنا جالسٌ هنالكَ امرأةٌ عجوزٌ ربما لم أرَ في حياتي من هو أكبر منها سناً! لا أدري تُقيَّمُ بتسعينَ سنةً أو تزيدُ. هكذا بدت لي. لكن ما أدهشني في الأمرِ أنها كانت تنظرُ إلى الجالسين في الصالةِ بعشوائيةٍ، وتشيرُ بسبَّابتها إلى الأعلى!لا أدري ما الذي كانت تعنيهِ بالضبط حتى وصلت بدورها إليَّ ناظرةً وأشارت بسبَّابتها إلى الأعلى!أشرتُ بيدي أنني لم أفهم مغزاها، فأعادت الإشارة!قمتُ من مكاني إليها وهتفتُ فيها:- السلام عليكم، هل تحتاجين شيئاً يا أُمَّاهُ؟!
ردَّت السلامَ، وقالت:- لا يا بُنيَّ، غير أنني أُذكِّركَ بصلاتي الظهر والعصرِ، فستفوتكَ في الرحلةِ إن لم تُصلِّيها الآن، وهنا يوجدُ مُصلَّىً...
وأشارت بيدها إلى غُرفةٍ زُجاجيةٍ.
أكبرتُها في نفسي كثيراً، وقلتُ لها:- صليتُ ولله الحمدُ، وجزاكِ الله خيراً للتذكير.



أقلعت الطائرةُ في الجوِّ، وارتفعت إلى ارتفاعِ اثنينِ وثلاثين ألف قدمٍ باتجاهِ "دُبي" كمحطةٍ مؤقتةٍ، وانتصفت في طيرانها صحراء الربع الخالي الفسيحة، فكنتُ أنظرُ من النافذةِ إلى تلكِ الكُثبانِ، وقد تشكَّلت كأمواجِ البحرِ، ولكنها قفرٌ مُرعبةٌ كلوحةٍ فارغةٍ لا تحوي سوى الكُثبان!

أثناءَ ذلك، داهمني النُّعاسُ لقلة ما نِمتهُ في الأيامِ الماضية وأخصُّ الليلةَ، فقررت أن أُغطِّي وجهي بشماغي وأرتخيّ لعلي أنامُ، إن استطعت!

ربما نمتُ عشر دقائق أو رُبعَ ساعةٍ، وبدأتُ أشعرُ باضطرابٍ وأصواتٍ تصدرُ من المقاعد التي تقدمني مُباشرةً.




نفسي تقولُ لي:


- ما الذي يجري؟! هل حدث مكروهٌ يا تُرى؟!

فأجيبها:
- لا أدري، والنُّعاسُ يغلبني فلستُ بمستعدٍ حتى لكشفِ وجهي لرؤيةَ ما يجري.


فتقولُ لي بأسىً:
- لا تتصنع البرودَ وعدم المُبالاة! أنت تُريدُ أن تعرف ما الذي يجري!

فكنت أُدافعها:
- يا نفسي دعيني، فما الذي يعنيني في ذلك أو يُهمني. كما ما الذي أنفعهم بهِ؟!



فتقولُ بعبرةٍ:
- لعلَّهُ مريضٌ يريدُ مساعدتكَ!


فأضربها وأزيدُ في تغطيةِ وجهي:
- وماذا أستطيعُ فعلهُ هنا؟! حتى السمَّاعةُ لستُ أحملها، وعلى فرضِ أنني قادرٌ على علاجٍ فالأدويةُ والتي تستلزمُ الإبر ليست لدي!



قَبَّلت نفسي قلبي وقالت:
- ناشدتكَ الله إلاَّ قُمتَ وعرفتَ ما يجري!!


فأعدتُ الشِّماغَ إلى خلفِ رأسي، ومددتُ رقبتي ، ونظرتُ، فرأيتُ المضيفاتِ يقفون محاذين للمقعد الذي أمامي وشخصٌ من الجهة الأخرى كذلك، وكلهم اضطرابٌ، وأسئلةٌ تتطايرُ:
- ما بكِ؟!
- هل أصابكِ مكروهٌ؟!
- هل تستطيعينَ التنفُّس؟!
- هل أنتِ مريضةٌ بشيءٍ؟!


أخرجتُ النظارةَ من جيبي، ونظرتُ إليهم قائلاً:
- ما الذي يجري؟! هل حدثَ مكروهٌ؟!


فأجابتني مُضيفةٌ لهجتها خليجيةٌ مشوبةٌ بقلقٍ:
- نعم! هذه العجوزُ مرِضت فجأةً!


فأجبتها، وأنا أقفُ نازعاً الشِّماغ عن رأسي:
- ما الذي جرى بالضبط؟! فأنا طبيبٌ.


شَعَرتْ بالارتياحِ، وقالت:
- يقولُ هذا الشابُّ الذي بجوارها أنها أخذت ترتجفُ فجأةً وتمسكُ على صدرها.

كنت حينئذٍ واقفاً فوقَ رأسِ المريضةِ، فكانت تلك العجوزُ التي كانت تُذكِّرنا بالصلاةِ في المطارِ.فسألتها
- ما الذي تشعرين بهِ يا أمي؟!


فقالت وهي تُمسكُ بصدرها ورقبتها:
- جسدي يهتزُّ، أشعرُ بألمٍ!


سألتُ الشابَّ الذي بجوارها بينما كانت يداي تفحصُ نبض المريضةِ ونفسها:
- هل أنتَ ابنها؟!


فأجاب:
- لا، ولكنها من قريتي وأعرفها.





فسألتهُ:
- هل تذكرُ ما حدثَ لها؟!


فقال نفسَ ما قالت. فسألتهُ إن كانت تُعاني من أمراضَ مُزمنةٍ، فأجابَ بالجهلِ.

أخذتُ أفحصُ كلَّ ما قدرتُ عليهِ بلا أجهزةٍ، غير أن كل شيءٍ كان سليماً، وعلى الرغم من قلة ما بيدي فعلهُ بالفحص؛ غير أننا ولظروف الديارِ التي درستُ فيها قد درَّبونا على الوصول إلى التشخيص قدر الإمكانِ بلا أجهزةٍ! ولكم كان ذلك صعباً ومتعنِّتاً!مبدئياً، المرأةُ سليمةُ القلب والنفسِ والسوائل والأملاحِ، ولا خطر يُهددُ حياتها، وعلى ما يبدو أنها أُصيبت بدوارِ الطائرة، ولم تستطع التعبير عن ذلكَ بالشكلِ الصحيحِ، غير أن خوفهم كان مبرراً؛ فامرأةٌ بهذا العُمر محتملٌ أنها تعرَّضت لنوبةٍ قلبيةٍ أو ما شابههُ.

التفتُّ إلى الشابِّ ومن حولي من طاقمِ الطائرةِ، وقلتُ لهم:
- المرأةُ تعاني فقط من دوار الطائرة، ولا شيء يُهددُ حياتها إن شاء الله.


وقلتُ للعجوزِ:
- إن كانت لكِ الرغبة في التقيُّؤ فلم لا نأخذكِ للحمامِ، فذلك سيساعدك على امتصاص الدواء الذي سنعطيهِ لكِ.



فردَّت بالإيجابِ، وأخذتها المضيفةُ إلى الحمامِ، بينما أتتني نفسي تقولُ:
- هل أنتَ مُتأكِّدٌ من التشخيصِ؟!


فقلتُ بثقةٍ لها:
- نعم، هذا ما وجدتهُ.


فقالت مُترددةً:
- إنها عجوزٌ كبيرةٌ في السنِّ، وأخشى أن تكونَ هذه نوبةٌ قلبيةٌ.


قلتُ لها مُغضباً:
- لا! الفحصُ سليمٌ، ثم لو كان القلب –لا سمح الله- فما بيدي شيءٌ أفعلهُ إلاَّ قليلاًَ!


قالت:
- تأكَّد! فلن يكونَ منظرك جميلاً والجميعُ يُشيرونَ إليكَ أنك أخطأت التشخيصَ، وقصَّرتَ في إنقاذِ حياتها!


قلتُ لها بغضبٍ:
- أُغربي عن ذاتي! أنا واثقٌ من التشخيص، وهذه حدودُ الإمكانيات المتاحة في الطائرة.


فولَّت بصمتٍ مع عودةِ العجوزِ، فأمرتُ المُضيفةَ بإحضارِ ماءٍ، وقمتُ إلى حقيبتي لإحضار الأدوية التي تُناسبُ حالتها تماماً، والتي لم أكن أرغبُ بحملها!!

أعطيتُها الدواء، ووضعتها في وضعيةٍ مناسبةٍ، وأمرتُ قريب قريتها بمراقبتها، ومناداتي إن حصلَ شيءٌ. وعدتُ إلى مقعدي ببرودٍ أقرأُ في كتابٍ وكأنَّ شيئاً لم يحصل للتو!


دقيقةٌ وأتى مُضيفٌ وسألني:
- هل العجوزُ بخيرٍ؟! هل حالتها خطيرة؟!


قلتُ:
- لا، مجرَّد دوارُ الطائرةِ، وأعطيتها العلاج.


ولِّى عني إلى قُمرةِ القيادة، وعدتُ أقرأ مجدداً.

بعد خمسِ دقائق أتت المضيفةُ الخليجيةُ، وسألت السؤالَ ذاته، فأجبتها كإجابتي، فشكرتني وذهبت إلى قُمرة القيادة!
بعد دقيقتين أتت مُضيفةٌ شرقُ آسيويةٍ، وسألت بالإنجليزية السؤال ذاتهُ، فأجبتها بالجوابِ ذاتهِ، فأمسكت على فمها، وقد احتبست الدموعُ في عينيها، وهي تقولُ:
- "Thanks To GOD".. "Thanks To GOD"
"شكراً لله".. "شكراً لله"!


فقلتُ لها بالإنجليزية ما مفهومهُ:
- ما الذي يجري؟! أنتِ ثالثُ مضيفٍ يسألني ذلك؟! هل في الأمر خطأٌ ما؟!


فأجابتِ بسعادةٍ:
- كدنا نُجري هبوطاً اضطرارياً، فلقد ظننا أن المرأة تحتضرُ! ولابدَّ من الهبوطِ لإسعافها!


فقلتُ:
- اطمئني، إنها بخير ولا داعي لذلك!


أكملت بعبرتها المخنوقة:
- "Thanks To GOD" .. "Thanks To GOD"

وحقيقةً لم يخلو ذلك الموقفُ من دهشتي، وتذكري قول الله تعالى:(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) العنكبوت 65.

نظرتَ إليَّ بامتنانٍ، وقالت وهي تكفكفُ حالتها السابقةَ قائلةً:
- "Thanks To GOD" No.. No! Thanks to you are here!"شكراً لله".. لا.. لا.. شكراً لأنك هنا"!


وهنا صحتُ فيها:
- "No! Only thanks to GOD""لا. الشكر لله وحده".


لكنها كانت قد انحنت شاكرةً وتحرَّكت، ولا أدري أعقلت ما قلتُ أم لا!
عدتُ إلى النافذةِ، ونظرتُ إلى الكُثبان الرملية المخيفةِ أسفلنا، وقلتُ:
- هل كُنَّا سنهبطُ هنا؟!

أسندتُ ظهري لمقعد رحلةٍ علمتني الكثير.


ضياء مطر
Master Key
17/5/2009

ليست هناك تعليقات: