الاثنين، 3 مايو 2010

رحلةٌ في وادي عبقر!


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!




حدثني حسامُ بن يوسف قائلاً:
عنَّ لي ذات يومٍ السفر، في رحلةِ عملٍ بين البدو والحضر، وبعد أن اعتذر لها كل الرفاقِ كان لا مفر، فللسفر سيدٌ واحدٌ في كل من غبر!


ركبتُ دابتي وأخذتُ أطوي المسير، صعوداً بين التلال ونزولاً باليسير، وكان –يا صاحبي- يومٌ ما مثلُه يصير، رياحهُ سَمومٌ وشمسهُ سعير، والعرقُ مني صَببٌ والبصر غاب بالقصير، فتراءى لي لهبٌ، ظننته هول وصبٍ، فنزلتُ أستطلعهُ عن كثبٍ، فغاصت قدميَّ في الرمالِ، وسقطت أرضاً في الحال، وشعرتُ أن روحي تغرق في موج الجبال، فغبتُ عن الوعي، واستفقتُ على غيرِ ذلك الحال.


شعرتُ كأن رأسي دُكَّ بالحجر، فأفقتُ متألِّماً وبصعوبةٍ أمعنتُ النظر، تلال الصحراء أضحت سوداء كالمَلِّ أو أشر، مصبوغةً بحمرةٍ مصفرةٍ ويكأنها شرر! أين أنا؟! ما الخبر؟ فسمعتُ هاتفاً من خلفي: عمتَ سعيراً في وادي عبقر!


فالتفتُّ من خلفي، من بإزاء ردفي؟! فكان –يا خلي- مخلوقاً أشرق النَفَسَ بالأنفِ.
رأيتُ شيئاً خلتهُ شيطاناً؛ قرنُ جاموسٍ، وجناحُ ناموسٍ، ذيلُ حمارٍ، وحوافر من نارٍ، جسدٌ شبيهٌ بالإنسان، وأذرعٌ لطولها تضيقُ بالمكان، يمشي برجلٍ واحدةٍ ويقفزُ في أحيان!
فلهولِ ما رأيتُ صرختُ، وهربتُ من إزائي وجريتُ، فما كان لي سوى بالفرارِ ألوذُ، فأمسكني بشدةٍ، فهممتُ بالله أن أعوذُ، فأقفل فمي وقال: نشدتكَ الله ألا تقول كقول ابنة عمران، ولكن افهم ما أقولُ، وبعدها عُذ بمعَاذٍ.


قلتُ وقد طار من عقلي الصواب: هاتِ يا جناً ما عندكَ من جواب!
فتنحنح المخلوقُ القبيحُ، فلهولها هبت حولنا الريحُ، وقال بوجهٍ لا يُريحُ، لا تعرفُ منه أمدحٌ قال أم تجريح: أنا قرينك "بعبوط"، باسطُ الأكفان والحنوط!
ومدَّ يدهُ إليَّ مُصافحاً، فأوجستُ أن يكون لدمي سافحاً، فأدنيتُ بخفيةٍ في جسدي نائحاً، فاستجمعتُ قواي وبلعتُ ريقي، ومددتُ يَدِيَ قائلاً: تشرفتُ يا صديقي! أنا اسمي.. أنا.. ماذا كان؟! لعله هُنا.. أنا!!!
فمن الخوف نسيتُ اسمي! فما عدتُ أرى إلاَّ مقابر الرمسِ، فقاطع الشيطانُ قولي، وقال: أنت حسامُ الهُمام، خلاَّقُ القوافي والكلام، وأولُ من أخضع الجنَّ للسلام!!


قلتُ حينها ساخراً: ما دمتُ عندك بهذا القدرِ، فأخلِ سبيلي طائعَ الأمرِ! ثم أينَ أنا؟! وماذا تنوي من الشرِّ؟
فأجاب بصوتٍ مُرعبٍ مُظهَر: أنت في دركة الظلام الأنور، ديارُ الجنِّ من وادي عبقر!


فأقامني عن الأرض بطرفِ أظفارهِ، ونفضتُ عني الرمادِ من آثارهِ، وقلتُ بسخطٍ:
والآن، بحقِّ الله ماذا تُريد؟! فأجاب ذلك الرعديد: مددٌ منك يا مديد!
قلتُ يا مشركاً! اطلبهُ من رب العبيد!
فقال: الخطبُ ليس كذلك، ولكن اسمع ما هنالك، واقبل طلبي محفوفاً بذلك!!
قلتُ: بئساً لمن علَّمك العربية! لا تُستعملُ تلك الكلماتُ على تلك السجيَّة! أم تُريدُ درساً في البلاغة اللغوية؟!
فقفز "بعبوطٌ" قفزةً في إثرها زلزال، شقَّقَ الأرض وألهبَ الزوال، وقال صارخاً: نعم! نعم! الآن في الحال!!
قلتُ غاضباً: أنت أبهمُ منك قبل لحظة! تُرى أأنا في حُلمٍ أم في يقظة؟! أجبني أيها المُخيف، أو أستعيذُ..
فألجمني ثانيةً وقال:
حسناًَ، حسناً سيدي لك ما تُريد، أتيتُ طالباً علمك الفريد، وسائلاً إمدادي بألفِ حرفٍ أو يزيد، وإلاَّ خسرتُ هيبتي بين سادة الجن والعبيد!
فقلتُ وعجبي لا يُفارقني: فهمك بعدُ لا يساورني، أأنت جنٌّ أراد أن يشاورني، أم طالبُ علمٍ يريد أن يجاورني؟!


فقال ذلك المخيف: خسرتُ نزال الشعرِ يوماً مع جنٍّ أليف، فنبذني المردةُ وطردي بات يحيف، وأخذ الجنُّ يلمزونني بالضعيف والرهيف، وأمهلوني ألف يومٍ لاستعادة كرامتي، فهمتُ على وجهي وذللتُ هامتي، فسمعتك يوماً تشدو بسجعٍ من السُّحار آتي، فقلت هذه هي! نشدتُ عندك ضالتي!
فقلتُ: نادراً ما أقولُ الشعرَ، ولعلك سمعتَ مقامةً!
فقال: شعراً كان أو مقامة، إنها تكفي لقود الجن بالإمامة، وطمس كل دُبٍّ إلى حمامة! فاكتب لي بعضها ولك مني ما تريدُ عظاماً أو عمامة!
فقال حسام: اكفيني شر الوسوسة، والأفكار الموجسة، وشعرك بالمدح سيعتلى بكلِّ لسانٍ ومنبسة!
فقال "بعبوطُ": أما الوسوسةُ فليس لك عليَّ فيها سبيل، ولك كلُّ ما دونها من التعظيم والتبجيل، وما لم يكن لك به خاطرٌ أو لك به قبيل!
فقلتُ وهل تظنُّ نفسك عظيماً أيها القرين؟!
فزمَّجر "بعبوطُ" هائجاً: أنا اللعين ابن اللعين! أنا قاتل المردة على مرِّ السنين! قال عني شيطون ابن المشيطن الشيطوني في كتابه "المارد الأبهر في سادة عبقر": "وبعبوطُ ماردٌ لم يُخلق مثلهُ أحقر! ولا لنظير شره أظهر"!!
قال حسامٌ: فكتمتُ في نفسي ضحكةً خفية! فقريني جدُّ أجهل من رأيتُ باللغة العربية، وأضمرتُ عونهُ بقصيدةٍ عتيَّة، فعلى حدِّ علمي أنني الآن في عهد الجاهلية!
فقلتُ لـ"بعبوطٍّ": هات يا صاحب الحنوط، أرني دياركم، وأخبرني بأخباركم، لأعرف كيف تؤكلُ أكتافكم، وتُكتب أشعاركم، ومواطن مدحكم، وعتبات هجائكم!!


فأصعدني على ظهرهِ وقال تمسَّك، ولن يصيبك مكروهٌ أو نارٌ تمسَّك! وانطلق طائراً بين أودية الظلام، ما رأيتُ أفزع منها؛ تطيشُ بالأحلام، وتُعجِزُ اللسان عن أدنى الكلام، ويلفحك بين حينٍ وآخر شيءٌ من شرر، فتجد أن عقلك أصابهُ شيءٌ من ضرر! فقلتُ: ويحك "بعبوطُ" أين تأخذنا؟! أهذه منازلٌ تُنْزلنا؟! فقال: منازلنا ما زالت بعيدة، وفي طريقنا أزمانٌ سعيدة، وضروبُ فخر مشيدة. فلتعرفها قبل أن تكتب المدح أو الهجاء!


فمررنا بحرَّةٍ يلفُّها السكوتُ، وقال: رويدك! هذه حرَّة "الجُعفوتُ": ما أكثر من بها يموتُ! هنا يا صاحبي في هذا اللهيبِ نُقيم نزالاً يُشبه العَدْوَ، يسمونهُ سباق "الفكو"! قلتُ الجكفوتُ والعفوُ ما يكون؟! فنهرني: ليس عفواً بل "فكوٌ"! قلتُ وما هو؟!
فقال: سباقٌ شعبيٌّ شيطانيٌّ عالي الوصف! للركض على ثلاثةِ أصابعٍ ونصف، مسافة أصبعين ونصف!!


قلتُ وعجبي لا يزالُ: أبقي من غرائبكم شيئاً على هذا المنوال؟! أبقي أفكارٌ أخرى للنزال؟! فقال القرينُ: نعم! أتعرفُ يوم "الجفاديد"؟! يتنازلُ في هذا اليوم مردةُ الشعر بالهجاء والتهديد، وقليل فخرٍ للمجد يُعيد! ومن يخسر يُغيَّبُ في الوحلِ لألف عامٍ أو يزيد، حتى يُغيَّبَ فيهِ بعده "جُفدودٌ" جديد!
يقولُ حسامٌ: أفهم أن الجفدود مفرد الجفاديد! وأخبرني يا أفشل من رأيتُ في اللغة، كيف كنتَ تهزمهم بتلك الجهالة الموغلة؟! وحروفك المولغة؟!
فقال: على جهلي، فلا أحدَ أعلم مني بالشِّعرِ في هذا الوادي، حتى أتى "جلمود" بمقرونهِ الشادي، وصاغ القوافي في كلِّ البوادي، وهجاني مُذهباً كُلَّ أمجادي. لعلَّ اسمهُ ممدوح بن محمود!
قلتُ: إذاً لقد وصلتَ، فهلمَّ نقعد في ساحة القوم، ونقلب حَولَهم للنومِ، وأفراحهم لأبد الصوم!


فأخذني العفريتُ إلى أوديةٍ مُشتعلة، بها عفاريتُ لا تبدو منتعلة، وفيها من الغرابة ما تظنها مُفتَعلة! فذلك سوقٌ لبيع العظام، ميزانهم فيه جنٌ يمدُّ يديه للأمام، ويزن العظام بالأخرى ويحسب السعر بالكلام!
وذاك جنُّ يُحدِّثُ نفسه! فقلت أيا قريناً ألهذا أحلامٌ مؤنسةٌ؟! فقال: بل هو مشغول لقرينهِ بالوسوسة!


وعندهم سوقٌ لتبادل الأكاذيب، ذاك يقولُ أنه لم يخضع لسليمان في بناء المحاريب! وآخر لفَّ الأرض على بعض الدواليب! وكاذبٌ يدعي النبوة في قوم المغاليب!


فأتينا على ديوان الأخبار، ومجلس النثر والأشعار، المُمَوَّلُ عفريتياً من ذوي اليسار! فأخذنا مجلسنا، ووضعنا جولتنا، وقلتُ قولتنا:
إن قريني "بعبوطاً" شكك بعضهم في شرف مكانه، وغلبةِ أقرانهِ، والعلو على جميعِ أهل زمانهِ، وإني سمعتُ شادياً في الجاهلية يتغنى بمدحهِ، فليسمع كلُّ شيطانٍ من مكانه!
فقالوا: العن بالمدح.. العن!
فهمسني بعبوط لما أوقفتُ الشرح: قل القول ولا تبالي بالطرح! هذا دأبهم في حثِّ المدح!
فقلتُ:


سيّـر إليك جمـوعَ الجنِّ بالقهرِ
واسعُرْ جحيماً، شهراً ليس كالشهرِ


واجمع ببأسكَ أصفاد القِران وزِدْ
جُوداً عليها أبياتـــاً من النَّحرِ


واضمم كريمـاً إليهم كُلَّ مفخرةٍ
واعزُز إليهم أكوابــاً من الخمرِ!


حتَّى إذا سُعرت بالحـربِ حَمْيَتُهُ
والجَفنُ لا يهوي دونـاً من النقرِ!


واستنَّفرَ الشُّعارُ جيشــاً يُعوِّلهُ
يحمي مجالسهم من ساعـةِ الحشرِ


فانظر إلى طــودٍ ما مثلُهُ يبدو
صعبَ الدِكـاكِ وما بسبيلهِ يسري


يأتيـهِ (بعبوطٌ) من غير عزمتـهِ
فأحالهُ دكَّــاً في غــابرِ الدهر


هل تُنبئ القُرنـاء اليومَ عن هولٍ
يعلو بهولٍ وفخـرٍ مثلَ ذا الفخرِ؟!


العزُّ كالمجدِ مرهونٌ لقولتنـــا
والشعرُ يُخضعُ في بوابـــةِ النثرِ


لا عجز يمضي سُلْماً قُربَ مسكنهِ
إلاَّ مروراً إلى القُرنـاءِ في يُســرِ


أمَّا قريني -قــوَّى الله قولتهُ -
فهو العتيُّ وأعتى الجـنِّ في الشعـرِ


اهنئ بُعيبطُ لا تنظــر لشرفتهم
أنت العليُّ على الأعقـابِ والنسرِ



فقام جنٌ سمينٌ ينفضُ يديهِ، ويسعر لهباً من بين إبطيهِ، ويهذر بتعاويذ شعرية! يقول هذه حربٌ! هذه مهزلةٌ عصرية! متى حاز "بعبوطٌ" كلَّ هذا المجد؟! إن هو إلاَّ كذبٌ ممردٌ بسد!
فالتفتُ إليهِ، وأخذتُ أُقلِّبُ الطرف بين جنبيهِ، وقلتُ: كم يمشي الراكبُ بين جانبيك؟! وكم ماتَ مسافرٌ حتى وصل إلى حذو شاربيك؟! حتى مقرونك كان من أكبر هاجيك!
فقال "جلمودُ": كلا! ممدوحٌ صاغ فيَّ المدائح، وأورثني العزَّ من بين الطرائح!
فقلتُ: بل أنبأني بهجاء أنبأه لكل سائح! اسمع أيها السمينُ ما قالَ:


ما نلتَ مجداً يا (جُلمودُ) بالأكـلِ
تحشـو الوعـاء هنيء التبنِ والأثل!


قد نلتَ في بيتِ الشيطانِ من تعسٍ
ضخم الحواشي عصي الفهمِ والعقلِ!


دوماً على زمن الأقـرانِ مُنطـرداً
وادٍ بعبقرَ قـد أقصـاكَ من أهـلِ!


قد كُنتَ فينا دوماً حتـمُ مهزلـةٍ
ما حُزتَ مجداً. ما أخزاكَ من نسلِ!


هــلاَّ نُنبِّئُ عن شُعَّــارنا ذُلاً
يومَ (الجفاديدِ)إذ خيَّمتَ في الوحلِ؟!


واذكر سباق (الفكو) وكُنتَ تُؤمِلُهُ
في حرَّةِ (الجعفـوتِ) خسارةً تُبلي!


والحـربُ تُنبئنا عن دُغفـلٍ بطلٍ
ألوى فراراً من الطِّعـانِ والحمْـل!


وانـزل إلى مقعـد الشعر ننـزِلُهُ
يدعوك (بعبوطٌ) تعوي على الهـولِ!


ويحيي وويحك قد أفسدتَ سُمعتنا
حاشـا إليك من الأمجـادِ والنُّبـلِ


حُبِّي إليك يقولُ القــول في ألمٍ
عزِّي المكـارمَ أنت مطاعمُ القملِ!



فسقط "جلمودُ" مغشياً عليه! وسُمع الصياحُ في الوادي من حافتيهِ، تنصيبَ "بعبوطٍ" مارد الشعر ورأسه وحاجبيه!
قلتُ يا قرينَ الشرِّ ها قد نلت الأمجاد، وصرتَ سيداً لكل من ساد، فاكفف أذاك عن العباد، وأعدني لعالمي هُديتَ سبيل الرشاد!


فأجاب: ليس بعدُ أيها القرينُ! "إنك اليومَ لدينا مكينٌ أمين"! وبقاؤك معي حتمٌ إلى أبد الآبدين!
فابتسمتُ وقلتُ:
خسئت أيها العزيز الكريم! نسيتَ قبل قول الذكر الحكيم، أن تقول": أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم!


فتهاوى عالمهم واختفت الشياطين، وشهقتُ شهقةً أزالت الجبين، وأفقتُ وقد ذُرِّ على وجهي الماءُ، بيد مُسعفٍ والزمان مساء، أين أنا؟!
ما الذي جرى؟!
وجدناك مغشياً عليكَ في الصحراء!
فقمتُ أعوذُ بالله من الشر، ومن قريني خالِط الحلو بالمُرِّ، وأخذتُ أستذكرُ ما كان من الأمرِ، وما جرى من الكرِّ والفرِّ، فما ذكرتُ سوى بيتٍ من الشعرِ:


العزُّ كالمجدِ مرهونٌ لقولتنـــا
والشعرُ يُخضعُ في بوابـــةِ النثرِ




د. ضياء مطر
أثناءَ سفرٍ في الصحراء السعودية
3/3/2010م